18 أبريل 2012

قليل من الثورة...كثير من التكشف : الحلقة الأولى

رائعة هي تلك الرحلات الاستكشافية التي نذهب فيها خلال مرورنا على أرض البسيطة. كما آخرين، كانت رحلات 2011 المميزة على الإطلاق.

أنشأت هذه المدونة بعد 25 يناير، واستخدمتها لـ25 يناير بالأساس وكان الموضوع بالعادة تسجيل بعض شهاداتي على ما رأيت، ولا ألتزم بالتدوين في كل حدث، وإنما حين ينقص بعض الشهادات الأخرى إضافات أجد وجوب ذكرها لتكمل المشهد أو تنفي شهادة غير سليمة.

مرة أخرى أريد أن أكتب عن مجموعة من رحلات 2011، والتي أجدها تتابعًا منطقيًا، لمجموعة تدوينات "شيء من الإيفي" التي كنت قد خصصتها للأحزاب وما وجدته إلى جوارهم بخاصة في فترات انتخابات مجلس الشعب في محافظتي. وتكمن منطقية التتابع في ترتيب التكشُف، إذ أنني حين كنت أكتب تلك المجموعة كنت ومن قبلها بكثير لا أرى جدوى كبرى وفائدة عظمى من التحزب أو حتى مجلس الشعب ذاته سواء في مصر أو أي بلد من بلدان العالم إلا القفز على بقية سكان البلد من ناحية بدعاوى الديموقراطية وكل ما شئت من مصطلحات رنانة وسهولة ترويضهم من ناحية أخرى بدعاوى التعاون الدولي والعلاقات الخارجية. وكنت أظن ألا نقاء إلا نقاء الشارع مع قليل جدًا من التحفظات، والتي غذاها الوقت لتنمو وتكبر التحفظات حتى رأيت للشارع جانبًا لا تقل ضراوته وضره عن التحزب ومريديه في معظم الأحيان.

لهذا هذه السلسلة من "قليل من الثورة...كثير من التكشف"، ولهذا مضطرة أبدئها بقليل عني والشارع، مما قد يساعد على إيضاح لِم قد أرى الأمور كذلك وليس بشكل آخر.
أنا والشارع لم نتعارف إلا قبيل 25 يناير بقليل، وكان أساس التعارف عاملين بحسب ما أظن، أولهما هو بعض الأعمال التطوعية التي كنت أقوم بها لسنوات وكان أثرها كثيرًا من الإحباط، ففي كل مرة كنت اشعر بأني أجتهد كثيرًا للحصول على زجاجة صغيرة من الحبر وأسعد بها وأذهب لألون البحر بها، فيأخذها ولا يتلون، ولا يتغير من الواقع المرير شيئًا، حتى أني بلغت من الإحباط أني قررت الاكتفاء بالاجتهاد للحصول على زجاجة الحبر الصغيرة ثم الانتظار لحين أن يذهب أحدًا آخر سيقوم بتلوين البحر بزجاجته فيأخذها معه، حتى لا أذهب وأرى انعدام الأثر أمامي. 

أما العامل الثاني لتعارفي أنا والشارع، كان إحدى مجموعات الحصص التي أشارك بها كل عام في الصيف بغرض زيادة المعرفة أو اكتساب مهارات جديدة، وكانت تلك المجموعة بخصوص إدارة المؤسسات التعليمية العلمية والهندسية وكنت أعمل وقتها مديرة إحدى البرامج التعليمية المشتركة بين جامعتين واحدة في مصر والأخرى خارجها، وكان لدي العديد من المشكلات كنت أظن أنها لسني الصغيرة أمام هذه المسؤولية الكبرى، فقررت الحصول على تدريب في الإدارة.
وقبل المشاركة في هذه الحصص، أجريت اختبار شخصية، وحصلنا جميعًا على النتيجة أثناء الحصص، وكان كثير من الآخرين من تصنيفي ذاته، وكنا تقريبًا، بنفس الحال، إلا أن كثيرًا منهم كان يفوقني براعة في مجاله العلمي في جامعات عالمية مرموقة لا أظن إني حين أبلغ سن أصغرهم، سأكون بمثل تفوقه العلمي.
وفي المقابل تدنت درجاتنا فيما يخص العلاقات الإنسانية، نعم العلاقات الإنسانية، وقد حاول المحاضرون أن يشرحوا لنا أنه لا يوجد أحد بيننا طيب وآخر شرير، إلا أن نتائج الاختبار تشير أننا نكون أكثر اطمئنانًا إذا ما تعاملنا بلغة الأرقام والحسابات والأدلة والبراهين، وأننا نعول قليلًا على حاسة الشعور والتفاعل مع الآخرين إنسانيًا. نعم إنهم يتحدثون عني فخلال عملي الذي ذكرته مثلًا كنت لا أفهم البكاء المستمر لإحدى المحاضرات حين كنت أحاول شرح لها أنه لا يمكن قبول محاضراتها مكتوبًا اسمها عليها وهي منقولة بالنص دون أي تغيير من كتاب معروف بين الأوساط العلمية في هذا المجال، ولم أكن أفهم دفاع الآخرين عنها، ولم أكن أفهم لماذا تبكي من الأساس في حين أنه يمكنها الاختيار ما بين أن تقول ببساطة "أنا لن أعد أي مواد علمية وسأعمل بالمراجع"، أو أن تختار أن تعد مادتها العلمية الخاصة وتضع اسمها عليها.
ذاك واحدًا من مئات الأمثلة عن عدم قدرتي على التفاعل إنسانيًا، قد أستطيع أن أذكر منها أيضًا أني شاركت في غُسل جدتي من أبي، وخرجت لم أذرف دمعة واحدة. لذلك آمنت بنتيجة الاختبار، وتذكرت أيضًا تقصيري في العمل التطوعي الذي كنت قررت أن أتعامل معه من زاوية واحدة هي الزاوية المادية البحتة. 
صادف توقيت تلك الحصص، مقتل أخينا خالد سعيد، وتابعت الوقفة الأولى بإهتمام واستغراب، ولم أكن أفهم كثيرًا ولا أتابع كثيرًا أحوال البلد تحت مسمى السياسة، إنما بمنطق أن البلد أوضاعها متردية. وحين عدت لمصر بعد رحلة قصيرة كان فجر يوم الوقفة الثانية، وبسبب فرق التوقيت الواسع لم أستطع النوم، وقررت النزول للمشاركة في الوقفة الثانية في محاولة مني للتضامن "إنسانيًا" مع جريمة بشعة، كانت قد أحبطت أمي، التي كانت تتلو عليّ هلعها مرة بعد الأخرى من المشهد حين كنت أهاتفها لأن وجه "خالد" يذكرها بوجه جدتي وأمها التي توفت في حادث سيارة، كما كان يذكرها وجه "خالد" بأخي الصغير المسافر، إلى جانب أن بيتنا لا يبعد كثيرًا عن بيت خالد، وكثير من التشابهات الأخرى التي قد جعلت أمي تحاول مرارًا أن تقنعني أنا وإخوتي أن يثبت كلُ منّا في أي بلد هو فيها، ولا نعود، لأن "البلد مش بلدنا". ونعارضها جميعًا نحن في ذلك، حتى وإن كانت الظروف إلى الآن تضطر اثنان من إخوتي إلى البعاد.
في الوقفة الثانية، نزلت بالكاميرا الجديدة، كان أول استخدام لها، وحاولت تغطية الوقفة، والتدرب على التصوير، لأني لم أكن أفهم ما الجدوى من الوقوف "ساعة صامتة" ففضلت المشاركة بالتصوير، وظللت أشارك هكذا إلى يوم 25 يناير، كان ما أحمله معي في هذا اليوم كذلك هو الكاميرا ذاتها.
خلال 2010 كنت كل ما أقوم به هو المراقبة ليس بالكاميرا إنما بعقلي محاولة إدراك ما يحدث، إذا تعذر عليّ في كثير من الأحيان التقدم في الأبعاد التي باتت تأخذها قضية "خالد سعيد"، فلم تتوقف عن كونها ثأرًا مع قسم شرطة (سيدي جابر) بل إمتدت إلى الداخلية وفتح ملفات التعذيب ثم كيف أن الداخلية هي ذراعًا أساس وركيزة لنظام مبارك للبطش في خلق الله واستمرار وجوده في أعلى كوم الوسخ الذي لا أعلم له اسمًا ولا وصفًا.
مخبرون:
وخاصة عندما بدأ تحدي مدير الأمن "محمد إبراهيم" وكلابه، بنزولهم لنا في مظاهرة تلو الأخرى، والقمع والمطاردات ومحاولات الاختطاف. لا أجد لهم وصفًا آخر فقد كان ذلك ما يُوحي به مشهدهم حين يخرج من سيارته ويمشي في وسط مجموعة من مرتدي نظارات الشمس حتى حين كانت الشمس قد غربت عنّا. بدأ في ذلك الوقت استيعابي وجود من يطلق عليهم الإعلام "نشطاء سياسيين" و"حقوقيين"، وكنت أرى منهم من يُطارد أو يُضرب أو يُسحل أمام عيني، وأجد منهم مقاومة وثبات وإصرار. تفاعلي مع تلك المشاهد، لا حول ولا قوة، مضحك وسخيف، فكنت أطوي شاشة الكاميرا حين تشتد المطاردات ويكثر المخبرون في كل مكان ويبدأ الضرب والسحل، فكنت أخفي الكاميرا داخل كمي حين كنت أجد التصوير ما يزال ممكنًا بغير ضرورة أن أتابع على الشاشة، وكان يصل الأمر في بعض الأحيان إلى الاضطرار أن أتجمد مثل عامود إنارة مثلًا أو أتصرف كأني أحد المارة، وأبدأ تمثيل علامات الاستغراب وأتسائل عم يحدث وعن سبب المطاردات.
ذاك ملخص بدء معرفتي بالشارع ونضاله النقي، فخلال 2010، أصبح بالنسبة إلىّ هؤلاء من يطلق عليهم الإعلام "نشطاء سياسيين" أبطالًا وأصحاب قضية، هم فتيان وفتيات، من زمن الفرسان الذين أقرأ عنهم في كتب التاريخ القديم ولا نقابل منهم أحدًا في أيامنا هذه. هم يمتلكون أدواتًا مختلفة لتلوين البحر بأكثر فاعلية وواقعية واستدامة. هم حقيقة وليسوا حلمًا أو أملًا نواسي به أنفسنا أن الحال سيصبح أفضل إذا ما اجتهدنا في دروسنا أو أعمالنا، لأني كنت قد أدركت تمامًا وجود الثقب الكبير الذي يذهب عن طريقه جميع ما يقوم به أي شقي على هذه الأرض إلى جهات ومجموعات محددة من الأفراد ولا عمل مما نقوم به يصب في صالح البشرية عن جد.

غَشتني تلك الأداة الجديدة كليًا وتوضأت ايمانًا بها، من النصف الثاني من 2010 إلى أشهر قليلة بعد 25 يناير 2011، حتى انفجرت بوجهي تلك التي لم تكن إلا بالونة قد مُلئت هواءًا، في الغالب.

في التدوينة أو التدوينات التالية، أرصد خروج الهواء متدفقًا من هذه البالونة.

---------------------------------------------

قليل من الثورة ... كثير من التكشف: الحلقة الثانية
قليل من الثورة ... كثير من التكشف: الحلقة الثالثة
قليل من الثورة ... كثير من التكشف: الحلقة الرابعة

هناك تعليقان (2):

  1. لو فعلا راي ممكن يمثل فرق فماشاء الله عجبني بساطة وفخامة اسلوبك فلا هو بالبسيط لدرجة الركاكة ولا هو بالمتفلسف لدرجة الحزلقة ولكن اسلوب راقي وكلمات رشيقة ومعبرة عن المعنى ولا تستبدل باحسن,والاهم المعنى ,صدقيني فرحت بفكرة تسجيل مشاهداتك وشهادتك عن الثورة, فستتكاثر الروايات وتتداخل الاحداث وتضيع الحقائق بعد حين..ربنا يوفقك يا مريم ويثبتك على الحق دايما

    ردحذف
  2. اذا كانت رؤيتك لمجموعه من الناس يتصارعون للعيش والعيش فقط بلا رفاهيه وبلا زياده فقط استمراريه الحياه علي حد موس الفقر القاتل واذاكان رؤيه غسل عزيز وانتقاله من حياتنا الي حيوات اخري مجهوله لنا واذا كان قتل مواطن لم يستحق ان يقتل ويعذب امام الخلق جميعا ثم يطعن في شرفه واخلاقه بلا ندم ولا خجل ولاولا فقد بلغتي ياابنتي مبلغ ما أصاب كل اصحاب الرؤي كل المهمومين بالناس المهتمين بشأنهم برغم ثقل ماحملتي وبرغم وجع اصابك الا انك انه اسعدتني انسانيتك وانتمائك للانسان

    ردحذف