21 أبريل 2012

قليل من الثورة ... كثير من التكشف : الحلقة الرابعة


---------------------------------------------

لثقتي بأني سأفشل في الوصف الدقيق،  لم أسع أثناء الكتابة، إلى تفصيل بعض الأحداث الهامة خلال علاقتي بالشارع الثوري الذي كان مدخله محاولة زيادة "التفاعل الإنساني" لدي.
مررت بعدة مواقف "إنسانية" منها الصادم ومنه الرائع، قضيت أيامًا غريبة حيث الضحك والبكاء متتابعين، والإحباط والأمل بينهما ما بين الدقيقة والتي تليها. أقف عند البكاء، وهو كان أحد الشواهد على مشكلتي في التفاعل إنسانيًا، فأنا لدي إلى الآن مشكلة مع البكاء، أنا لا أبكي، إلا كل بضعة أعوام مرة، ولا أفهم لغة البكاء، ولكن 2011 الجوادة أمطرتني بكاءًا أكثر من مرة في عام واحد، وليس في جميع الأوقات حين ينبغي ذلك، ففي قليل من الأحيان كان الصداع النصفي المعتاد الذي يطل من وقت لآخر مع الأحداث الصعبة، وفي أحيان أخرى حين يتعسر البكاء مع وجوبه، كانت بعض الشعيرات الدموية تتقطع أسفل جلدي غاضبة مستعيضة عن البكاء، ذلك حدث مثًلا أثناء مذبحتي ماسبيرو ومحمد محمود.

حقًا إن الإحساس نعمة بكل وسائله، ولا يعد أساسًا أن نمتلك جميعًا ذات الأدوات في الكم والكيف، فإن الأساس يكمن في الصدق والتخلص من الزيف، وعدم إلقاء بيوت الآخرين بالحجارة في حين أننا بنينا بيوتنا زجاجًا هشًا.

ولقد تكشف جانبًا من الزيف بداخلي وهشاشة زجاجي، في أيام اعتصام 8 يوليو، حين كنت أجلس مع صديقة أمام إحدى الخيمات وزارنا طفل صغير لا يتعدى عمره ست سنوات فصيحًا جلس يتحدث معنا، من أول نظرة "تصنيفية"، صنفته من أطفال الشوارع. هذه كانت أول مرة يجلس طفل شارع ويتحدث معي، صمت قليلًا بعد فترة من الحديث، حاولت أن أبحث عن أي حلوى معي لم أجد شيئًا، كان معي زجاجات مياه كثيرة، سألته هل تشعر بالعطش ومددت إليه واحدة، رفض وهذه أول مرة أجد طفل شارع متمنعًا عما أقدم، سألته عن السبب، فأجاب بأنه لن يأخذها لنفسه بل سيعطيها لأمه. ذهبت إلى أن أربط قدرته على الابتسام بأنه طفل شارع يعيش مع أمه وتلك حالة نادرة الحدوث، على الأقل بحسب ما شاهدت من قبل. وقلت له أن لا بأس بأن يعطيها لأمه ويشربوها سويًا، ثم أخرجت القليل من المال وأعطيته له حتى يشتري حلوى، فأخذها متبرقةً أسارير وجهه، ثم انقلب بظهره إلى الخلف ومد يده نحوي، لم أفهم ماذا يقصد في البداية، فكررها ففهمت أنه يلهو، ويجب علي أن آخد بيده وأن أسحبه قبل أن ينقلب، فترددت لم أكن واثقة أني أستطيع الإمساك بيده، ففهمت صديقتي، ومسكت يده على الفور وسحبته ففرح، وأخرجت هي الأخرى بعض المال وأعطته له، ثم قال لي "أريد أن أرى هذه القبعة"، كنت أربطها بحقيبة الظهر، فابتسمت، لم ينتظر رأيي وشدها ووضعها فوق رأسه، وسألني "ما رأيك؟". حاولت صديقتي منعه عن القيام بذلك، لأنه من العيب أن يأخذ شيئًا ليس ملكه، ولم تُعجب بالطريقة التي وصلت بها القبعة على رأسه. لكني لم أحسن التصرف للمرة الثانية وقلت له "أراها تناسبك وتبدو بها رائعًا، إنها لك"، ذلك لأني لم أكن واثقة أني سأستطيع ارتداؤها مرة أخرى.

وبعد ذلك الكشف السريع، أدركت أن تصرفي هو القذر وليس يد الطفل أو ملابسه، ما كان ليحدث شيئًا لو كنت مسكت يده وسحبته كما كان يريد. لم أكن قد تحدثت إلى أي طفل شارع أو جلست معه، كنت، للأسف كل ما أقوم به عند مقابلة أحدهم، هو إخراج شيئًا من حقيبتي، وإعطاؤه إياه بسرعة، حرصًا على ألا ألمس يده.
كان ذلك اختبارًا قاسية، لم أنجح به، وإن كنت بعد ما رأيت صديقتي سليمة معافاة، أقصد سليمة النفس قبل الصحة، وبعد أن أدركت أن عقلي ملوث انشغل بالظاهر والسطحي عن الأساس الداخلي، قد حاولت أن أنتهز فرصة مقابلة أي طفل شارع آخر ومصافحته أو التربيت على الكتف أو أي شيء أظهر به أمام نفسي أني قد تخلصت من ذلك الزيف، وإن كنت لا أظن إلى الآن أني سأشعر أني قد تخلصت منه ذلك الزيف تمامًا إلا بعد مقابلة الطفل نفسه مرة أخرى، وأحاول أن أصحح موقفي، لأني أظنه قد فهم، وأنا الغبية.

وأود أن أربط ما سبق بأن أخص بالذكر أسوأ اللحظات التي مررت بها خلال تلك الرحلة الكاشفة، حين كان يتحدث الآخرون عن زيف الآخر وصدمتهم، وهم الذين كانوا صدمتي الأمس، فهم من يصدر عنهم زيف مصحوبًا بإلقاء الآخرين بالطوب، ينقدون ما يجترحونه، في الآخرين لا في أنفسهم. الصادمون مصدومون؟! إني إذًا مثلهم، فكما هم يصدمون الآخرين بأفعالهم وتصدمهم أفعال الآخرين، قد أكون مثلهم أصدم كما أُصدم، لا أجد مبررًا لاستثناء نفسي، فقد أضل الطريق وأظن أني أحسن صنعًا.

لا خبر عندي بموعد الاختبار القادم، وأتحسب قدومه "ربنا يستر" لا أعلم ما سيتكشف من زيف آخر بداخلي، وما إذا كنت سأستطيع التعامل معه، والتخلص منه تخلصًا آمنًا أم أنه سيرافقني طويلًا.

لم تنته الرحلة ولا أريد لها أن تنتهي حتى ينتهي التكشُف الذي أظنه بعمر العمر. صحيح أن الإنسان ضعيف بترقيق الضاد إلى الدال ومد الياء كما شئت، لكن أحدٌ لن يكون إلا بالتكوين، أي أن يكون جزءًا من هذا التكوين فيتكون هو الآخر، تجنبًا للتكرار، هذه التدوينة تخبرنا عن المقصد بسلاسة.
صامدون:
عمدت استخدام ألفاظ مثل "قلة" أو "كثرة" أو "بعض" أو "معظم" أو "غالبًا" بُغضًا في التعميم الذي لا محل له هنا وغير هنا. وأتذكر أني إخترت أن أستخدم تعبير "في الغالب" حين وصفت امتلاء البالونة بالهواء، لأني لا زلت أجد قدرًا من الأصالة من حولي، قدرًا أستطيع أن أتلحف به، وأن أعتصم به فيعصمني. فما يزال هناك من يخفت بريق اللآلئ وكريم الأحجار في حضرتهم وعند ذكرهم. هم الذين لم يُستهلكوا بعد وينأون قدر المستطاع بأنفسهم عن ميكنة الاستنزاف المستشرية. أظن أن الغالبية قد بدأت مثلهم ثم نكبوا عن الصراط عند لحظة ما. ولكني أجد هؤلاء صامدون إلى الآن خلال رحلة التكشف الخاصة بكل منهم، يكسرون حواجز الخوف ويعبرون أسوار الاستمالة، ويتقدمون تاركين الإحباط خلف ظهورهم والإيمان ظهيرهم، ويتوقون إلى الشهادة أكثر من أي شيء على الأرض، لا رغبة مستترة في التخلص من الحياة، بل لأنهم قلبوا الدنيا أولها لآخرها فزهدوا عنها، وطالما بقوا فيها، فهم ماضون لتحقيق الحكمة من وجودهم معتبرين في ذلك الحياة أداة لا غاية. أظن أنهم من صنوف تلك الأرواح التي إلتقيت بها، في أوائل شهر يوليو الماضي، حين كنت أستقل حافلة إلى مطار القاهرة، وشعرت فجأة بقشعريرة تجتاح صدري، ونظرت إلى خارج النافذة فوجدتنا على مستوى الأدوار العلوية للبنايات، سألت "أين نحن الآن؟"، فأجاب أكثر من واحد مزهوًا "أنت الآن فوق كوبري قصر النيل". لا بد وأن المكان تفيض على أصالته الجنة بريحها في كل يوم منذ ذلك اليوم، يوم زحف الأبطال، فقرأت الفاتحة داعيةً لهم ولنا بالرحمة.

أتوقف هنا عن مطالعة قصاصات وصور الرحلة، حتى أتقاسم ما شرد إليه ذهني، فيما يخص أن الرحلة لا تنتهي عند هذا الحد ولا يجب لها أن تنتهي. فقد يوحي السابق من الطرح أن بآخر الطريق سدًا. غير أني لا أرى ذلك، إلا في حال إصرارنا على الاستمرار على سابق عهدنا وتجاربنا بانتظار نتائج مختلفة، في حين أن في الآفاق وفي أنفسنا سبل لا تفنى.
وبالرجوع إلى فكرة التكوين خلال هذه المرحلة التي تفشى العبث فيها أكثر من أي شيء، أؤمن أنه بالإمكان تقليص تجربة اعتقادنا بأهمية الانتماءات والاعتقاد بقوة خارقة لفريق كونه وحده هو القادر على العبور إلى البر.
أظن بوجوب التفكيك وإعادة التشكل لا وفقًا لانتماءات فكرية تنتهي باستنزاف مجهودها في التشاحن والتصارع مع الآخر ويسهل على الجهات القمعية الداخلية أو الخارجية السيطرة عليها وتدجينها وإيهامها بأنها تقوم بعملٍ ذي قيمة.
ماذا لو تلاشت التصنيفات وفقًا للانتماءات الفكرية وأفسحنا المجال للانتماءات المكانية؟ ماذا لو عمل كل فرد مع أهله وناسه، هل سيخرج الإعلام علينا معاديًا أهل منطقة كذا دون كذا؟ كي نكسر المركزية سواء المتمثلة في التركيز على مكان واحد كأنه محور الحياة أو على بعض المجموعات ورموز أفرادها، وكأن المشاركة يجب أن تظل قاصرة على فئات محددة، وباقي الجمهور ينجر وراء هذه أو تلك إلى هنا أو هناك بحسب "المصلحة".
روى لنا الماضى القريب والبعيد كيف يتم اختزال الجماهير في فئات وكيف يتم اختزال الفئات إلى أفراد يسهُل استهدافهم إما بالاستمالة أو التخلص النهائي ممن تسول له نفسه الامتناع عن التعاون، ذلك دون التخلص مما كان يمثله هذا المخلِص، ودون ترك مقعده خاليًا، بل يضعون آخرين من قِبلهم يأتمرون بأمرهم.

في حين أن جميع الناس أتوا إلى هذه الحياة للحكمة ذاتها، إلا أنه بعد عصور مزمنة من انتهاك الفطرة، بات يُطلق على تحرك الجمع "ثورة" وما هي بثورة، إنما هي فطرة الله التي فطر عليها عباده، ما يحدث من تحرك للجموع إنما هو عودة للفطرة.

بشيء من حسن التخطيط، يمكن الاستفادة جيدًا بالكثرة العددية والموارد البشرية للاستعاضة عن ضعف الموارد المالية. ويجب التدقيق فيما يُعرض من مساعدات من خارج مجموعات العمل، إن كانت من جهة ممولة داخليًا من تبرعات شركة تعمد إلى تخفيض ضرائبها فقط أم أنها أيضًا مدخل للتدخل الأمني، أم أنها مدخل للتدخل الخارجي الذي يعمد إلى نخر المجتمع من أساسه.
أظن وقد يتكشف لي لاحقًا أني لم أحسن التفكير، فالله أعلم، أن التوجه للعمل بهذا المنطق، لن يسمح بسهولة لأي جهة ركوب الأفراد وجعلهم مطية لأهوائهم أو الحد من تطلعهم إلى القيم التي يعملون من أجل تحقيقها، تطلعهم هذا الذي يبدأ بالجزم والآراء القاطعة الباترة ثم عدم التيقن ثم الحلول الوسط ثم العدمية.

أفصل خطاب التدوينة بالتذكير مرة أخرى من غرض كتابتها: أنه بغض النظر عن المعتقدات والانتماءات إن كنا نسلك ذات طريق الآخر فقط بشكل مختلف نظن من خلاله أننا سنقلب الطاولة على العدو ونحن الغالبون في حين أننا من هذا المنطق لا نختلف عن آخرين فلا داعي للتقاذف بالطوب وإيهام الغير بأننا مختلفون مميزون رائعون أنقياء. والحكم القديمة تخبرنا بأن الحداية لا تهدي فراخًا وأن المُغطى بالقوى التي يحاربها عاري وأن من بيته من الزجاج لا يقذف غيره بالحجارة.

إن كنا وجدنا بداخلنا هذا الصنف من الازدواجية قد نود مراجعة أنفسنا قبل المتابعة، وإن لم نكن كذلك فلا نتوقف عن متابعة الطريق في رحلة التكشف. ولا نترك الميادين، فإن فيها خلاصنا، ولنرابط على الايمان والأمل، لأن الأمل صلاة والصلاة صلة عند الذي لا ينقطع عنده الرجاء.

قليل من الثورة ... كثير من التكشف: الحلقة الثالثة

قليل من الثورة ... كثير من التكشف: الحلقة الأولى
قليل من الثورة ... كثير من التكشف: الحلقة الثانية

---------------------------------------------

نعلم أن وقت تنظيم الصفوف وإنشاء الحركات والمبادرات، نحتاج كما أيام الاعتصام أو التظاهرات إلى بعض الموارد المالية.

تبين لي للأسف الشديد، أن بعض النشطاء ممن قدموا تضحيات لا يقدر عليها الكثير، إذا لم تؤت تضحيتهم ثمارها على طريقة الوجبات السريعة، فإنهم يبحثون عن تعويض، وكنت أظن أن هذا التعويض معنويًا، مثل حاجتهم للتقدير الزائد أو حب الظهور أو مثلما جماعة الإخوان الحديث عن الحق في سلطة مقابل ما قدموا من تضحيات. لكن اختبار الأموال كان كاشفًا وقاسيًا، حين لم يمانع بعض من هؤلاء النشطاء القدامى في تقليب الآخرين في مساهماتهم المادية، والاحتفاظ بها لأنفسهم. وقد كانت القسوة في محاولاتهم تفسيرهم للاحتفاظ بهذه الأموال، وطريقة اصطحاب ضمائرهم إلى سبات عميق، والتعليل بحقهم في هذه الأموال والأهداف الأسمى التي ستحققها هذه الأموال المغتصبة بغير وجه حق.

زائفون:
أظني وصلت أخيرًا بعد مقدمات طويلة إلى لب تلك التدوينة، أطالع الآن قصاصات أوراق والصور من هذه الرحلة الحديثة:
. عندنا جماعة الإخوان المسلمين الذين لا يمانعون الجلوس مع موظفين من الحكومة الأمريكية أو ممثلين من المجلس العسكري، معللين ذلك بأن تلك هي "السياسة"، التي تضطرهم إلى بعض الاتفاقات، ويحاولوا إقناع أنفسهم وإيانا أن ذلك وضعًا "مؤقتًا" لحين تمكنهم ثم أنهم سيقومون بتحقيق العدالة الناجزة وستقوى شكيمتهم وسيصبحون اليد العليا، وسترضخ لهم أمريكا ومن يعمل تابعًا لدى أمريكا؛
. عندنا جماعة الإخوان وأحزاب "الشعارات الإسلامية" التي شنت هجومًا ضاريًا على شركة المحمول بعد أزمة "ميكي ماوس" وانساق ورائهم الكثير، وكان إلحاح أصدقائي منهم بالتخلي عن خط 012 والتعامل مع أي شركة أخرى ويفضل 011، لأنهم في نهاية المطاف منّا، رغم أن الحقيقة أن كلاهما ليسا منّا، فقط أحدهما يتحدث بنفس لغتنا وما الاثنان إلا وجهان لعملة واحدة.
كنت أعلم منذ اللحظة الأولى أن الحرب "المدافعة عن الدين" زائفة وإنما هي حرب رجال الأعمال، لقد قضيت وقتًا في الجامعة صديقة لأخوات من الجماعة وإلى الآن وأحضر عدد من دروسهم ومناسباتهم وفاعلياتهم وأعلم كيف يفكرون، مع إنهم يصرون في كثير من الأحيان أني لا أفهمهم، وأحيانًا أخرى يبادرونني بالعبارة المعتادة "لماذا تكرهوننا؟". وتيقنت من زيف تلك الحرب، حين روت لي إحدى الصديقات المنتمية لحزب الجماعة، أنهم "جماعة الإخوان المسلمين" قد عرضوا على رجل أعمال شركة المحمول شراء حصته في الشركة، ولم يلق عرضهم قبولًا، لك أن تتخيل قدر الدعاية المعاكسة  إذا ما حدث القبول، وكيف كان سيحدث إلحاحًا معاكسًا لنغير جميعًا إلى خط 012.
ما يسوء في هذه القصة هو تطويع الدين وحشد الناس لأغراض مستترة، أعلم جيدًا وفق معرفتي بفكر الجماعة، أنهم يحللون ما يقومون  به بطرق عدة، ويؤمنون أن تمكينهم من كبرى الشركات هو نصر لهم، وكل ذلك "مؤقتًا" في سبيل الهدف الأكبر التمكين وتحقيق الشريعة والعدالة "فيما بعد". ومايسوء أيضًا عدم تعادل قوة تفاعلهم مثلًا في قصة "ميكي ماوس" هذه، في مقابل تعاطيهم مع المذابح المتكررة في نهاية 2011 وبداية 2012 على يد العسكر.

. عندنا من يظن الجميع أنه ناشط مناضل وهو الزيف بعينه، كيف يثور شخصًا على نظام، ثم يهدأ ليؤسس حزبًا جاء تمويله من أحد أفراد ذلك النظام الفاسد؟ عن شركة القلعة وحزب العدل اتحدث.

. عندنا قلة من النشطاء قبلت بوجود المندسين في تلك اللحظة التي يتوافق فيها شكل مواجهتهم مع الأمن مع مواجهتهم، ويقنعون أنفسهم أن ذلك بشكل "مؤقت" ولم تتخلى هذه الفئة عن الفكرة إلا بعد خروج الأمور عن السيطرة بوفاة اثنين على يد سفاحي الأمن.
. عندنا قلة من النشطاء تقبل بالاحتفاظ لنفسها ببعض من أموال زملائهم، وهم مضطرون لذلك "مؤقتًا" لأنهم سيستخدمونها في أهداف نبيلة، ونظرًا لخبرتهم القديمة في النشاط السياسي فهم بالطبع سينفقونها بأفضل ما يستطيع أصحاب تلك الأموال المستخلصة سواء من دخلهم الخاص أو حتى مصروفهم الشخصي. وفقًا لهم الأمر مجرد "سوء توزيع" للأموال بوجودها في يد أولئك، بينما يمكن أن تحدث إعادة توزيع فيصبح ذلك المال في اليد الخبيرة، أيديهم يعنون.

. عندنا ناشط مشهور لأنه سُجن ذات مرة منذ أكثر من عشر سنوات، حتى إذا ما أصبح مشهورًا ومدعومًا يعرفه الجميع، وأصيب في إحدى المواجهات بجرح سطحي في ساقه، يمكنه أن يصور ذلك الجرح ويرسله عبر الانترنت، ليعلم الجميع أن الناشط المناضل "مصاب"، وعندنا شاب في سن صغيرة أصيب إصابة بالغة في المخ أثرت بالسلب على إبصاره، حاول أن يتجاوزها في البداية بالابتسام وسط أصدقاءه ثم بعد فترة صار حاله كما يمكنك أن تقرأ في هذه الأسطر القليلة وما بينها:

.عندنا أيضًا قلة أخرى كافحت منذ اليوم الأول وحاربت الرأسمالية المتعفنة التي هي أس البلاء، وهي تهتف ضدها في المصانع والجامعات، ولا مانع لديها من تلقي أموالًا مصدرها تلك الرأسمالية، لأنهم يملكون من الذكاء والدهاء، أن يتلقوا أموالًا من أولاد الـ*** "مؤقتًا" وفي الوقت ذاته يحاربونها حتى تسقط تمامًا.
لا يندرج تحت بند الأسرار، على سبيل المثال، أن شركة مثل "بروكتر وجامل" وعن طريق البنك الدولي تمول مؤسسات لنشر الديموقراطية والحرية وكذلك المجموعات التي تعمل من أجل حقوق العمال ونشر "العدالة الاجتماعية". باختصار، الرأسمالية المتعفنة تغدق على حركات اشتراكية. كم عامل يُخصم من حقه حتى تحصل تلك الحركات على تمويل من الشركة التي يعمل بها حتى تدافع عنه ضدها؟!
والواقع أن هذه الحركات لا تنجح ولم تنجح قط، إلا في تحقيق شقٍ واحدٍ من شقي الأهداف التي تدخل بها تلك المؤسسات في مجتمعات مثل مجتمعاتنا، ألا وهو شق نشر مفهوم "الحرية"، ولكم مني سلام وتحية على الاشتراكية.
وقد تجلت قوتهم أثناء الدعوات إلى الإضراب في يوم 11 فبراير، لم تلق إلا قبولًا محدودًا ولم يكن لأهداف سياسية، ولم تحقق أثرًا ملحوظًا إلا بين الطلاب، المتلقين لجرعة أهداف تلك الحركات بشقيها، ولنعلم أن الأمن لا يتركهم في حالهم، فله من الطلاب من يجيدون "فن التمثيل" فيدسهم في وسط مثل هذه الحركات لتجميع معلومات بانتظام عن نشاطهم والتحقق أن كل الأمور "تحت السيطرة".

. عندنا مجموعة تعمل تحت شعارات حرية الفكر والتعبير عن الرأي، وهي لا تمتنع عن الاستهزاء بفكرك إذا كنت جزءًا من الأغلبية، أما إذا كنت أقلية، فستتمتع بقدر من الود والمعاملة اللطيفة. قد يكون الكلام غير واضح المعالم، عليّ أن أدرس تلك الحبة بمثال، حصل ذات مرة، أن شملتني حرية التعبير عن الرأي على موضوع ارتداء الحجاب بانتقادات لاذعة، وفي الوقت ذاته وجدت أن تلك الحرية ترى العزاء في رمز الأقلية واجب، مع العلم أن المجموعة لا تنتمي لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء،
تعسر عليّ أن أجد إلى جوارهم شيء من هذا اللطف الذي تلقته الأقلية، وتداركت أني كما الواقف في حديقة بانتظار ظهور سمك يصطاده. تداركت لأني أعلم أين أجد مثل هذا اللطف، حيث أكون أقلية، نعم حين أكون أقلية. ذلك حدث أثناء رحلة لي إلى بلدٍ بأغلبية سكان لا يدينون بالإسلام لحضور مؤتمر ودراسة صيفية، وحدث أن علق سياسيًا في الإعلام عن معاملة المحافظ للمسلمين معاملة حسنة بأنه يداهن الإرهابيين، فما كان إلا أن تحول المسجد في صلاة الجمعة التالية بعد الصلاة إلى مؤتمر ضخم، حضره كبار القساوسة وأحبار اليهود ومنظمات حقوقية. لنا أن نتوقع أيهم كان يفيض علينا لطفًا أكثر، بعض من تاركي المسيحية إلى "المدنية"، لم يتحولوا إلى أناسٍ لطاف، فهم يمزقون أهل ملتهم "السابقة" كل ممزق، لكنهم يتوددون إلينا تحت شعار احترام الآخر وحقوق الإنسان و... و... جميع المصطلحات التي يمكن أن نكتبها بخط عريض لأهميتها.
لماذا لا يغدقون أيضًا على أهل ملتهم السابقة بـ"حقوق الإنسان"؟ لم أجد إجابة لا هنا عندما كنت أغلبية، ولا هناك عندما كان آخرون هم الأغلبية. لكن يمكن أن نذهب إلى أنه لا يوجد فرق كثير بين الذين يتكلمون من منطلق سماحة دينهم وهم لا يحسنون إلى الآخر أو هؤلاء الذين يتكلمون من منطلق حرية الفكر ويمزقون الآخر.

. عندنا بعض منظمات المجتمع المدني الممولة بشكل قانوني، تحدث عنها ذات مرة محامي وناشط حقوقي مفسرًا، أن الحكومة الإنجليزية تخفض الضرائب على بعض الشركات في مقابل تبرعات يقومون بها، وتخيرهم ما بين المساهمة في تمويل حرب العراق وأفغانستان أو دعم منظمات حقوقية في دول متأخرة فاختارت الشركة التي تمول منظمته، الاختيار الثاني لرفضهم تمويل الحرب. أراك تختم قفاي بوسم "#مغفلون"، هل تنتظر منّا أن نفهم أن الحكومة الإنجليزية تخير الشركات المتبرعة ما بين الخير والشر، فاختارت الشركة الخير ومنحتكم تمويلًا؟ هل لا تريد أن نستوعب ما تحمله تلك المؤسسات بجوار المعلن، ندرك ونقدر جهودكم في مساندة ضحايا التعذيب والقهر بكل ألوانه. لكن رجاء إليك عني بقصة الخير هذه!
 خلال عملي كمترجمة مستقلة يمر عليّ صنوف من الوثائق والمستندات في مجالات شتى. ذات مرة منذ عامين أو أكثر قُدم إليّ عرض مغري جدًا من أحد مكاتب الترجمة، وكان الموضوع المعلن في جميع مراسلات المكتب أنها أوراق خاصة بـ"المرأة والطفل" في الدول المتأخرة، وأن التخصص اجتماعيًا، وأجريت اختبارًا ولقيت القبول، إلى أن أُرسل إلى الأوراق المطلوب ترجمتها، وهي ليست أوراق سرية، هي أوراق موجودة على الموقع الإلكتروني لمؤسسة تابعة للاتحاد الأوروبي خاصة بالتعاون بين دول حوض البحر المتوسط شماله وجنوب.
مررت سريعًا على الورق، منتهي العبث، حقوق المرأة هذه التي أتوا ليصدروها إلى تلك الدولة العربية التي يعيش بها السُنة والشيعة. اذكر على سبيل المثال، مقطعًا خاصًا يتحدث عن جعل الميراث قانونًا مدنيًا، فيتساوى إرث الولد والبنت، ولا يُدرج إخوة الوالدين في حالة وجود بنات فقط، انظر العلة أو المدخل "حسن النية"، "بدلًا من أن يضطر الأب السُنيّ أن يبدل دينه إلى الشيعة ليحفظ ثروته لبناته فقط، لا تترك معتقداتك بسبب الإرث، نحن لدينا الحل، نجعل قانون الميراث مدنيًا وتظل أنت على ملة أهل السُنة"، مقطع آخر يتحدث عن تعدد الزوجات ونسبته ضيئلة جدًا في هذا البلد ولا يتجاوز الزوجة الثانية في بعض المناطق الريفية، لكن تلك المنظمة تعده انتهاكًا لحقوق المرأة. لا أعلم كيف يرى كاتب هذه الوثيقة وضع الزوجتين أسوأ من وضع عاصمة بلده المشهور رجالها بأن كل منهم لديه عشيقة إلى جانب زوجته. لماذا لا يهتم بشئون بلده ويحاول إيجاد حلًا لما أصبح وسمًا على جبين بني بلده؟
وأعتذرت عن عرض العمل بطريقة غير محترفة أو مهنية، فكان لدي الإمكانية أن أكتب أي سبب موجز، لكن الغيظ تملكني حتى وبعد أن هدأت، كتبت سؤالي الأخير هذا إلى مكتب الترجمة متضمنًا في الاعتذار.
. بنفس المنطق كان منذ سنوات قليلة انحشار الحكومة المصرية في قانون تزويج المسيحيين الأرثوذكسيين بعد الطلاق، وكان رد البابا شنودة أن هذا دينهم ومن يلجأ إلى المحكمة بهذا الشأن فليفعل ما يشاء وهو خارج الطائفة، فإما أن تتبع الدين بكامل أحكامه، أو تعلن خروجك إلى طائفة أخرى تجيز ذلك. لم يحدث ذلك بموجب الشريعة الإسلامية التي بمقتضاها يحتكم كل أهل دين إلى كتابهم في الشئون الخاصة (الزواج والميراث إلخ) ولكنه حدث بتدخلات بعض من منظمات المجتمع المدني التي تعمل من خلف الستار تارة وفي العلن تارةً أخرى متعاونة في كل الأحوال مع حكومة سوزان مبارك راعية الأسرة المصرية.

. عندنا كذلك مؤسسات كثيرة موجودة بشكل قانوني تام تعمل بنفس النمط منها رابطات عالمية لها أفرع في بلدك، تحاول حاليًا، بعد 25 يناير، الإندساس والتداخل مع الحركات والمبادرات بنفس المسميات "برنامج الشباب" أو "تشجيع الشباب" أو تمكين الشباب"، وحيث أن أغلبية كل أعضاء تلك الرابطات من أصحاب المصالح "العليا" في البلد، فلا ننتظر منهم خيرًا لهذه الثورة، بل إن غالبهم يتعاملون كما بشاوات انقلاب 23 يوليو، يظنون  أن التيار "المتطرف" قادم ليقيدهم وأن هناك بعض الصعاليك ممن جاءوا ليقضوا عليهم ويهدفوا إلى حرمانهم من ثرواتهم الخاصة، وإن صح ذلك في الانقلاب العسكري الذي يسمى بالثورة، فإن ذلك غير صحيح بالمرة في 25 يناير.

نعلم أيضًا أن الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي هي كيانات قانونية، يحسب الكثير، أنها طالما تدخلت باتفاقات دولية في بلدنا، ألا بأس بها وأنها لنفعنا الخاص، ويظنون أن برامج منح الFulbright وUSAID وUNDEP وErasmus Mundus هي برامجًا تحمل الخير لمصر طالما إنها أتت بموجب "قنوات شرعية".

. عندنا على مستوى البلد، جموع الباحثين عن المنح الدراسية، هل قرأت يومًا عن "Brain gain Vs Brain drain" ، مكسب العقل في مقابل تصفية العقل، هل تهدي الحداية فراخًا؟ لماذا المنح الدراسية من الجامعات الأجنبية؟ لأسباب عدة، نسوق منها واحدًا أو اثنين، راقب بخاصة الباحثين بمجال العلوم والهندسة والطب والزراعة، عندما يسافروا للحصول على درجة علمية، لا يسافر كل من يريد السفر، هناك امتحانات مختلفة للمهارات تعمل على فرزهم، ثم إنهم يذهبون ولا يعودون بالغالب، لماذا؟ لأن جميع الخطوات محسوبة منذ البداية. تشترط عليك الجامعة أنك ملتزم بالعودة فور انتهائك من الدراسة وحصولك على الدرجة حتى تخدم بلدك، وتوقع على أنك لن تعود مرة أخرى في أغلب المنح قبل فترة 3 سنوات مثلًا، ويتشبع المتقدم للمنحة إيمانًا بأنه ذاهب ليحصل على هذه الدرجة المدعمة بمنحة أجنبية، ليعود ويخدم بلده، كم أنت حنون أيتها الدولة الأجنبية! كم أنت خبيثة أيتها الدولة الأجنبية! لا يدرك البعض في البداية إنه عندما يعود بالدرجة، لن يعود ليجد المعامل البحثية التي كان قد يعمل بها في جامعة الدولة الأجنبية، سيعود للمعامل المتهالكة، ذات المعدات التي تكآلت من الصدأ، والتي استقر بها العناكب والفئران.
لا يعلم أنه وهو عائد سيطلب منه مديره في الجامعة الأجنبية أن يعود ليستكمل البحث ويقدم له عروضًا مغرية، وأنه سيرفض ولا يعلم أنه سيعاود هو طلب ذلك بعد أن يرجع ويصطدم بعدم قدرته على تغيير الواقع المرير في الجامعات والمراكز البحثية في بلده، فإما أن يقبل أن يتحول إلى أستاذًا أكاديميًا يقضي الباقي من عمره يتقاسم مع الطلاب بعض من معرفته ويحتفظ بالباقي حتى يحفظ لنفسه بعض المكانة في "درجة أعلى" ويقص عليهم أمجاده في السنين القليلة التي قضاها باحثًا، أو أن يعمل في بلده في المشاريع البحثية التي تأتي أيضًا تحت مسمى الشراكة الأجنبية وتحت سيطرة أساتذة من الخارج أو أن يعود مرة أخرى إلى تلك الجامعة الأجنبية أو أخرى، ليجد التقدير المادي والمعنوي في مقابل أن يصبح ترسًا في الميكنة الكبرى التي تستنزف بانتظام عقول أبناء كثير من البلدان لصالح قليل من البلدان الخادمة بشكل مباشر للبلطجة العالمية.

أعلم أن البعض قد تلمع عيناه بنشوة الانتصار عند قراءة الشق الأول من هذه التدوينة أو عند قراءة الشق الثاني، أو كليهما، أو أنه لم يسمع جديدًا. تمهل يا من تلمع عينك ظنًا منك أنك قد وجدت سلاحًا يُمكِّنك من الآخرين، لا تسثني نفسك ولا استثني نفسي، ابحث في عملك وفي دراستك وفي نمط حياتك لكي تجد موضعك في تلك المنظومة مزدوجة المعايير التي تحولنا إلى مزدوجي النوايا.

. عندنا إحجامنا عن تحقيق سبب قدومنا إلى هذه الدنيا، لدينا صمتنا حين ينبغي الحديث وحديثنا حين ينبغي الصمت، لدينا اختصار أسباب الحياة فيما شببنا عليه ونود أن يشب عليه أبنائنا، المسار الأكثر "أمنا" للعبور في هذه الحياة، دراسة فعمل فأسرة صغيرة فقبر، ابحث من المستفيد الأكبر من عملك الذي تقوم به، بطبيعة عملك وكيفية قيامك به، ستجد نفسك جزءًا مكونًا مستديمًا لنظام إزدواج النية والاستنزاف المنظم للبشرية بأكملها من أجل قلة كل مايميزها أن موضعها أعلى قمة الوسخ.

وإن كنت تتسأل لم يترك "الأمن" مثل تلك الجهات أو الحركات، ذلك لأن غالبها مقننًا ولأنه ليس سرًا أن الأمن موجود لحفظ المصالح الخارجية على حساب الداخلية، إلا إذا أحب أن يقوم بمناورة ضد الخارج لمصالح "خاصة"، عندها سينقلب على القانوني وغير القانوني منها، هو يتركهم حين يريد وليثبت ما يريد. نوضح أكثر بمثال جريمة فحص العذرية، فقد دس الأمن حوالي ثماني فتيات يعملون لصالحه ليثبت نظرية محددة يقيم عليها فساده أمام الجمهور، كذلك يترك الأمن الأفراد الممولين يعملون كما تشاء الجهات الخارجية في وسط النشطاء والأفراد العاديين، بغرض خلط الحابل بالنابل في الوقت المناسب، وإدعاء أن الجميع على نفس النمط. ولن يعلم الحقيقة إلا من يتحقق ويتدقق للحصول على المعلومات، وقليلٌ ما هم.

كنت أظن كما ذكرت أن الوقت غير مناسب للحديث عن ذلك. لكن الوقت الآن، وليس بعد قليل، لا شأن لي بمعتقد أحد بالضبط كما لا شأن لأحد بمعتقداتي. ما يؤرقني الآن هو بدء تفشي انتشار المعتقدات المزيفة مزدوجة النية وتكاثر من بيوتهم من زجاج ويقذفون الآخرين بالحجارة، وكثرة من يتبعونهم ويقلدونهم.
قررت الكتابة بعد أن تراكمت الدواعي لذلك. منها أن نشطاء تقليب الآخر في ماله هم من كانوا يحذروننا بالأمس من فلان وفلان لأنهم يحولون النشاط الثوري إلى عمل تجاري وكانوا محقين فيما رووا، لأني تأكدت، لكن هؤلاء النشطاء بعد فترة وجيزة لم يفعلوا شيئًا مختلفًا عما كان منتقدًا بالنسبة لهم منذ قليل.
وكان من الدواعي أيضًا أن وجدت منشورًا هجومًا من أحد النشطاء على شخصية سياسية تحضر مؤتمرًا اقتصاديًا لا يحبه أعداء الرأسمالية، مشيرًا إلى أن تلك الشخصية مدعية، ولكنه المدعي، ذلك الناشط، الذي يعمل لنشر فكرة معاداة الرأسمالية حاصلًا على دعم من مؤسسات رأسمالية.
وكان من الدواعي كذلك، حين يتحدث إلىً أصدقائي "المتحمسين" للثورة ولم تشأ الظروف أن يشاركوا في الجزء الخاص "بالشارع"، بأسباب التدهور أن "شباب الثورة لم يُمكنوا"، وأرد عليهم بالصمت المتسائل "عن أي شباب ثورة يتحدثون؟". وعند هذا الحد، أستطيع أن أذهب إلى أن مزيد من الصمت يعني المشاركة في إضفاء الشرعية على الوهم.

أرأيت العسكر الذي يجلس مع جماعة ليمكنهم من التخلص منه؟ أرأيت الرأسمالية التي تغدق على أفراد كي يسقطوها؟ أرأيت الدول التي تعمل على تخريب عقول دول أخرى وتمنح المنح الدراسية لأبنائهم؟ أرأيت كبرى شركات السلاح التي تمول مؤسسات دعاة السلام؟ أرأيت شركات النهب المنظم للموارد الطبيعية التي ترعى نشطاء حماية البيئة؟ أرأيت جهات التطرف الفكري التي تمول مؤسسات الحوار مع الآخر؟ أرأيت الأرض الحرة، أرض الله الواسعة، التي قُطعت بخطوط طولية ودوائر عرضية فأصبح لك موطنًا يحدك، إن تجاوزته فأنت الغريب؟

هل وجدت موضع ترسك في آلة الاستهلاك الممنهج للبشرية؟ 

لا تتراكم تلك الأسئلة في رأسي مرة واحدة ولا ألبث أن أخفض رأسي مطأطأة إلى الأرض كاهلي مثقلًا بالاعتقاد في سيطرة وتسلط تلك القوى جميعًا، حتى تتقزم إلى أقل من عقلة الإصبع حين أتذكر الله، وقدرته وحكمته، في أن يُكتب مروري في هذه الدنيا في ذلك الوقت من الزمان، وأن هذه ورقة امتحاني، وأن على أن أجتهد في الحصول على الإجابات فأعتبر لربما أعبر.

لم يبق لي إلا أن أروي كيف أظهر لي طفلًا لا يزيد عمره عن السنوات الست، جانبًا من الزيف بداخلي، خلال سنة 2011 الكاشفة، ذلك موضوع التدوينة القادمة والأخيرة في هذه الحلقات.
---------------------------------------------

قليل من الثورة ... كثير من التكشف: الحلقة الرابعة

20 أبريل 2012

قليل من الثورة ... كثير من التكشف: الحلقة الثانية


قليل من الثورة ... كثير من التكشف: الحلقة الأولى

---------------------------------------------
في هذه التدوينة نرصد كما ذكرنا، خروج الهواء متدفقًا من هواء بالونة الشارع الثوري، ومن داخلي أيضًا. أتمنى ألا يكون أحدٌ قد أعد نفسه لأن يستمع إلى موال الصدمة في الآخرين وعدم القدرة على تصديق أن مثل تلك الأفعال والمعتقدات يمكنها أن تصدر من الآخرين، وإن كان ذلك رهط التدوينة، بيد أن مرحلة التكشف قد شملتني أنا أيضًا، أنّ لي أن اُستثني من ذلك الغربال الشديد.

سبق وأن رويت أن خلال تظاهرات النصف عام من 2010 كانت يتواجد المخبرون أو معاونو "الأمن"، هم الذين يتواجدون بزي مدني، لا بنمط الروايات، مرتدين معطفًا مرفوع الياقة وقبعة صوف، ولكن كان دائمًا من السهل التعرف عليهم. وكان الأمر يسيرًا خلال تلك التظاهرات لأنهم كانوا يقفوا دومًا إلى جانب رجال الشرطة، وقليلًا ما كانوا يتواجدوا بين المتظاهرين لتوريطهم. أذكر مثلًا في وقفة 9 يوليو من أجل "خالد سعيد" نصح أحدهم يدعي أنه يعمل صحفيًا الشباب بأن يعبروا شارع الكورنيش ويقفوا عند مسرح السلام للتخلص من حصار الأمن المركزي، وما لبثت أن قامت مجموعة بذلك، حتى يسر ذلك على الأمن تفريق المتظاهرين، وقيام مجموعات من الأمن المركزي قادمة من إتجاه متعامد على الكورنيش بحصار شباب مجموعة مسرح السلام والاعتداء عليهم بالضرب بالهراوات.
مندسون:
في بدايات 25 يناير 2011 والموجة الأولى الأحب إلى القلب، لم يكن - مهما كثرت أعداد المندسين - ممكنًا أن يكون لهم تأثير يُهدد ذلك الجمع الغفير، لا أذكر حتى أني رأيتهم. أظن أن السبب ليس فقط للأعداد الكبيرة بل أظن وقتها كان لايزال لديهم "أمل" فكان لايزال هناك فريقان، ونذكر مجموعات "آسفين ياريس" حتى بالاسكندرية، ولا أروي إلا عن الاسكندرية، فلم أشهد أي تظاهرات إلا بها. كانت لا تزال تلك المجموعات تهتف للمخلوع وللشرطة، وكانت أكبر تلك التظاهرات المؤيدة للنظام القديم، يوم موقعة الجمل، بميدان سموحة بأول شارع مديرية الأمن، الذي شهد أحداثًا دموية بنهاية عام 2011 على يد نفس المجموعة. ففي يوم موقعة الجمل، قام أحد كبار الحزب الوطني بتوفير جماهير مؤيدة للمخلوع وتهتف تحية للشرطة التي قد اختفت منذ يوم 28 يناير، وظهرت بعض قياداتها على استحياء في ذلك اليوم وفي حماية رجل الحزب الوطني هذا، وقام زميله بتوفير جماهير بلطجية تطارد الثوار إلى كوبري قناة السويس، وأصابت منهم العديد.

لا أعلم ولا أذكر حقيقة عند أي لحظة ولأي سبب، ظن الثوار أن عمل رجال نظام المخلوع قد انتهى بعد فشل ذلك اليوم بالنسبة لهم، أمام ثبات وإصرار المتظاهرين.
وعندما تعطلت حركة العمل جزئيًا، في المحافظة، بدأت أعدادٌ كبيرة في النزول والمشاركة في التظاهرات، ساهم في ذلك الإعلام الذي أصبح، دون مقدمات، بعد فشل الخطاب العاطفي لمبارك، يغطي اعتصام ميدان التحرير ليلًا ونهارًا وفي أحيان كثيرة يدعو للنزول بطريقة أو بأخرى. لا أذكر رؤية المندسين، بالطبع مع عدم تجاهل وجود بالطبع نشالين وأيضًا وبكل أسى أفراد عصابات خطف الأطفال، أذكر في أيام عدة، عند مسجد القائد إبراهيم، كان ينادينا أحدهم متوسلًا إلينا البحث عن طفل أو طفلة بمواصفات محددة، فقدهم أهلهم في الزحام، كلما ذكرتهم إلى هذه اللحظة ادعو الله أن يردهم إلي أهليهم ويقر أعينهم بهم.

بعد التنحي، سعدت الغالبية بـ"الانتصار الساحق" وظنت أننا قد أتممنا المهمة على أكمل وجه. لم يمر إسبوعان بحسب ما أذكر، حتى كانت أولى جلسات محاكمة قتلة خالد سعيد بعد 25 يناير وأظن كانت الجلسة الثالثة أو الرابعة، ولم يأت القضاة، وانقسم المتظاهرون جزءًا إلى قسم شرطة (الجمرك)، حيث كشرت الداخلية سريعًا عن أنيابها بتهديد أهالي ضحاياهم، واقتحام بيوتهم، وظل جزءًا آخر أمام المحكمة، التي كان من المقرر إقامة الجلسة بها، وبدأت تبرز في وسط الأعداد الصغيرة شخصيات غريبة عليّ، في طريقة الحديث وفي مقتراحاتها "الثورية"، لُمت نفسي لاستغرابهم بأنه لا شيء يستدعي أن نكون نمطًا واحدًا.

وكشفت الأيام والأسابيع والوقفات والتظاهرات التالية لهذا اليوم بالذات، أن كان من حقي الاستغراب، وأن هناك إندساس على مستوى عالِ يفوق بمراحل ما كنت أراه خلال 2010 وفي خلال الشهور التابعة.

كنت لا أجد خوف وقلق ما قبل 25 يناير، فلم أتجنب التعرف على نشطاء الإسكندرية وعلى الأخص من كنت أراهم في وقفات خالد سعيد، ذلك بأني "متأكدة منهم".
وتعرفت على موقع (تويتر) على بعضٍ آخر، فكنت أعرف البعض مسبقًا على الأرض، ثم أتابع حسابه على الموقع، أو العكس، وبدأت محاولات من البعض لتكوين حركات أو إنشاء مبادرات أو الانضمام لحركات موجودة من قبل 25 يناير، وحضرت اجتماعات وندوات لبعضها. ثم كانت (تويت ندوة) بنهاية شهر يونيو 2011 التي كان لها الفضل في مقابلة الكثير ممن أتابعهم على (تويتر) ولم أكن قد قابلتهم حقيقة أو بالأخص لم تأت فرصة للتعرف عليهم.

ثم كان اعتصام 8 يوليو، الذي شاركت فيه بدءًا من إسبوعه الثاني، فور عودتي من رحلة قصيرة خارج مصر لحضور مؤتمر علمي، وتعرفت في أثناءه على كثير من "صغار الثورة" بالطبع أتحدث عن الأعمار، وإن كان غالبهم بدأ الثورة مع الثورة، وسعدت بالتعرف عليهم جميعًا، وإلى الآن في كثير من الأحيان أغبطهم لمرورهم بهذه الرحلة في هذه السن الصغيرة.
كالعادة وبالطبع، لا أقف كثيرًا عند الأشياء السارة المبهجة حلوة المذاق، مرة أخرى تأخذني المراقبة إلى حيث ما يؤرقني، لأني لا أستطيع أن أستمتع بشيء أو أسعد به وأنا أرى واضحًا ما سيفسده عما قليل.
كان أمن ميدان الاعتصام مخترقًا اختراقًا سافرًا، بل تستطيع أن تذهب إلى أن أمن الميدان كان الاختراق ذاته. هل تذكرون اليوم الأول من رمضان حيث تحول أمن ميدان التحرير مرة واحدة، عند وصول قوات الجيش، على المعتصمين وتسلم خوذة وعصي وبدأ الضرب وإرشاد القوات عن المعتصمين لتتبعهم وضربهم أو القبض عليهم؟
لم نصل إلى هذا الحد في الإسكندرية، ولكن الإندساس أخذ أشكال عدة، وكانت أحداث المنطقة الشمالية في الـ22 من يوليو إحدى الشواهد الكارثية، التي قادتها تلك المجموعة وورطت بها شباب الثوار، وتم القبض على بعض المندسين مع شباب الثوار وبالطبع، تم الإفراج عن الجميع بعد ذلك، وإن كان حصل بعضهم على حكم مع الإيقاف. وتكرر اليوم بحذافيره في القاهرة يوم الـ23 من يوليو وفقدنا محمد محسن - رحمة الله عليه.
أذكر أني في إحدى المسيرات، سمعت صاحب أحد المتاجر التي مررنا أمامها، وهو يشير إلى إحدى المجموعات المريبة، يصيح حالفًا أن هذا الرجل مأجور وأنه من منطقة سكنه، وأنه يعمل عند مسؤول مجرم. ولم يكن مني أنا، من تشعر بالأمان أكثر بجوار الأرقام والحسابات والأدلة والبراهين، إلا أن بدأت السؤال في بعض المناطق السكنية عن بعض المشكوك في أمر مشاركتهم في المظاهرات وقطعت الشك باليقين.
والسبب في ذلك، كان خوفي الشديد والدائم على الشارع النقي، لا أقبل أن تشوبه شائبة. ولا أريد أن أرى شيئًا يلوث هؤلاء الأبطال حتى يمضوا في نضالهم دون أية معوقات من هذا النوع. لا أخشى المواجهات والتظاهرات، فقط كنت أود في كل مرة أن يكون أي اشتعال للأحداث، إذا وقع، أصيل غير مفتعل. شتان بين مواجهة تشتعل بين الأمن والثوار ومواجهة يصطنعها معاونو الأمن بمختلف صنوفهم ويتورط فيها الثوار. وسعدت عندما بدأت مجموعات هنا وفي القاهرة تتبع هؤلاء، وتفضحهم من مبدأ أمن الثوار أيضًا.
بسبب هذا وذاك، لم يكن مني إلا أن طلبت بأشكال عدة من "صغار الثوار" ألا يشاركوا في أي مظاهرة أو مسيرة إلا بجوار فلان وفلان وهذه المجموعات، لأن هؤلاء هم "النشطاء القدامي" و"الأبطال الحقيقيون" وأي كانت تحركاتهم فهي آمنة وهم أكثر خبرة بالشارع حتى لا ينجروا وراء أي مندسين مهمتهم إشعال الموقف. تدريجيًا بدأ الصغار الإلتحام مع الكبار، لا أرجع الفضل لطلبي بأي شكل، لكن أظني ساهمت بتوضيح ما أرى وقتها، وكان ذلك مطمئنًا كثيرًا لي، على سلامتهم، خاصةً أني لن اتحمل تأنيبي نفسي عدم مشاركتي بتظاهرة، قد يقع بها مكروهًا لأحدهم.
ومن ناحية أخرى، لم يكن طلبي "محببًا" إلى قلب هؤلاء النشطاء، فقد كانوا يرفضون بشتى الطرق فكرة الإندساس، وأن "أتهم" أحدهم أنه غير حقيقي وأنه يعمل مع الأمن، مهما سقت من أدلة واضحة وضوح الشمس، وكنت أُتهم أحيانًا بالطبقية. أذكر حتى في يوم من أيام اعتصام طلبة الجامعة ضد "هند حنفي" الرئيسة السابقة، حين وجدت شابًا يصيح بالمعتصمين ويحتسب الله فيهم لوقف الحال لأن له أوراق وأنهم سيضيعون دراسته ومستقبله، كنت أعرفه لأنه عامل البوفيه في القسم الذي كنت أعمل به وهو ليس طالبًا، وأن هناك من أرسله. وقبل أن أترك المكان، طلبت من أحد الطلبة المعتصمين التخلص منه بهدوء، وانقلب هذا الموقف إلى قصة مضحكة، ولم يقف عندها أحدٌ كثيرًا.

مع الوقت ووقوع أحداث متتالية، وضحت الرؤيا تقريبًا لدى الجميع وضوح الشمس الساطعة، أبرزها طريقة سحب الثوار إلى مديرية الأمن ومقتل بهاء السنوسي وشريف سامي - تغمدهم الله برحمته.

لم يمض وقتًا على اطمئناني بأن الأمور ستعود إلى نصابها فيما يخص نقاء الصفوف الثائرة، حتى عادت أسباب التكدر، هذه المرة من الإتجاه المعكس.
علمت أن قليلًا ممكن أدركوا المخطط كاملًا، المتمثل في تقدم المندسين الصفوف لإشعال الموقف، وتوريط المتظاهرين ومن ثم الإنسحاب بعد تمكن الأمن منهم الذي يضرب دائمًا من الصف الثاني، وإن مس أحدًا من الصف الأول، فأجره محفوظ، قرروا لوقت أنه لا مانع من تحمل وجود المندسين مؤقتًا، طالما أنه يوجد توافق في لحظة إشعال الموقف، وبعد أن يتم الانتقام والثأر من الأمن، سيأتي دورهم بعد ذلك. هذه القلة أدركت إن هذا ليس هو كفاح المناطق الشعبية كما كانوا يعتقدون، وأدركت أن هؤلاء مندسون من قبل الأمن، لكن قلة عددهم بجانب ظنهم وثقتهم إنهم يستطيعون تغيير البوصلة عندما يريدون ذلك، جعلهم ينتهوا إلى استكمال المواجهات مع وجود المندسين.

تمهل يا إدراك ويا عقل، وانصفني! أليس هذا ما نبغضه في الجماعة؟ ألا نكره جلوس الجماعة مع العسكر، والتي تدعي أنه أيضًا أمرًا "مؤقتًا" لحين مرور الأزمة، ظنًا بأنهم حين يتمكنوا سينقلبوا عليهم ويضعوا العسكر في حجمهم الطبيعي؟
كم مرة ساءنا تصرف "حسن البرنس"، قائد مسيرات الجماعة في الاسكندرية، حين كان يدخل المنطقة الشمالية العسكرية، ثم يخرج قائلًا "لقد أوصلت مطالبنا إلى المجلس، عودوا إلى منازلكم؟" وأطلقنا على تصرفهم اسم "ثورة إلى الساعة السادسة"؟

لم أكن اتحدث كثيرًا عن تنامي تحفظاتي على الشارع "النقي" في العلن، لأني كنت أظن أن الوقت غير مناسب لذلك، الاتهامات تنهال علينا كما السيل، لا ينقصنا فقع الدمامل الآن. حتى وبعد أن حدثت مشكلات في اعتصام سموحة، وكانت المشكلات مادية، متمثلة ببساطة في أن من يجمع المال للاعتصام لم يكن مؤتمنًا عليها، فبعد أن ائتمنه المعتصمون وهو بالنسبة لهم ليس ابن البارحة، هو قديم بنضال الشارع. وعندما رُويت لي القصة، طلبت متمنية منهم ألا يحدث عراكًا يسمعه "الجيران"، ولم تكن القصة تروى لي لأن لي تصرفًا في شيء، فقط كانت الرواية من باب العلم، وبالمثل أبديت أمنيتي فقط من باب الإدلاء بالرأي.
بعد انتهاء المواجهات التي كانت في كل مرة يبدأها وينهيها- وفقًا لإدراكي- الأمن وليس الثوار، عادت المجموعات الناشطة إلى تنظيم الصفوف عن طريق حركات ومبادرات جديدة أو مطورة للقديم.

التدوينة القادمة عن خروج الحجم الأكبر من هواء بالونة "الشارع النقي"
---------------------------------------------
قليل من الثورة ... كثير من التكشف: الحلقة الثالثة
قليل من الثورة ... كثير من التكشف: الحلقة الرابعة

18 أبريل 2012

قليل من الثورة...كثير من التكشف : الحلقة الأولى

رائعة هي تلك الرحلات الاستكشافية التي نذهب فيها خلال مرورنا على أرض البسيطة. كما آخرين، كانت رحلات 2011 المميزة على الإطلاق.

أنشأت هذه المدونة بعد 25 يناير، واستخدمتها لـ25 يناير بالأساس وكان الموضوع بالعادة تسجيل بعض شهاداتي على ما رأيت، ولا ألتزم بالتدوين في كل حدث، وإنما حين ينقص بعض الشهادات الأخرى إضافات أجد وجوب ذكرها لتكمل المشهد أو تنفي شهادة غير سليمة.

مرة أخرى أريد أن أكتب عن مجموعة من رحلات 2011، والتي أجدها تتابعًا منطقيًا، لمجموعة تدوينات "شيء من الإيفي" التي كنت قد خصصتها للأحزاب وما وجدته إلى جوارهم بخاصة في فترات انتخابات مجلس الشعب في محافظتي. وتكمن منطقية التتابع في ترتيب التكشُف، إذ أنني حين كنت أكتب تلك المجموعة كنت ومن قبلها بكثير لا أرى جدوى كبرى وفائدة عظمى من التحزب أو حتى مجلس الشعب ذاته سواء في مصر أو أي بلد من بلدان العالم إلا القفز على بقية سكان البلد من ناحية بدعاوى الديموقراطية وكل ما شئت من مصطلحات رنانة وسهولة ترويضهم من ناحية أخرى بدعاوى التعاون الدولي والعلاقات الخارجية. وكنت أظن ألا نقاء إلا نقاء الشارع مع قليل جدًا من التحفظات، والتي غذاها الوقت لتنمو وتكبر التحفظات حتى رأيت للشارع جانبًا لا تقل ضراوته وضره عن التحزب ومريديه في معظم الأحيان.

لهذا هذه السلسلة من "قليل من الثورة...كثير من التكشف"، ولهذا مضطرة أبدئها بقليل عني والشارع، مما قد يساعد على إيضاح لِم قد أرى الأمور كذلك وليس بشكل آخر.
أنا والشارع لم نتعارف إلا قبيل 25 يناير بقليل، وكان أساس التعارف عاملين بحسب ما أظن، أولهما هو بعض الأعمال التطوعية التي كنت أقوم بها لسنوات وكان أثرها كثيرًا من الإحباط، ففي كل مرة كنت اشعر بأني أجتهد كثيرًا للحصول على زجاجة صغيرة من الحبر وأسعد بها وأذهب لألون البحر بها، فيأخذها ولا يتلون، ولا يتغير من الواقع المرير شيئًا، حتى أني بلغت من الإحباط أني قررت الاكتفاء بالاجتهاد للحصول على زجاجة الحبر الصغيرة ثم الانتظار لحين أن يذهب أحدًا آخر سيقوم بتلوين البحر بزجاجته فيأخذها معه، حتى لا أذهب وأرى انعدام الأثر أمامي. 

أما العامل الثاني لتعارفي أنا والشارع، كان إحدى مجموعات الحصص التي أشارك بها كل عام في الصيف بغرض زيادة المعرفة أو اكتساب مهارات جديدة، وكانت تلك المجموعة بخصوص إدارة المؤسسات التعليمية العلمية والهندسية وكنت أعمل وقتها مديرة إحدى البرامج التعليمية المشتركة بين جامعتين واحدة في مصر والأخرى خارجها، وكان لدي العديد من المشكلات كنت أظن أنها لسني الصغيرة أمام هذه المسؤولية الكبرى، فقررت الحصول على تدريب في الإدارة.
وقبل المشاركة في هذه الحصص، أجريت اختبار شخصية، وحصلنا جميعًا على النتيجة أثناء الحصص، وكان كثير من الآخرين من تصنيفي ذاته، وكنا تقريبًا، بنفس الحال، إلا أن كثيرًا منهم كان يفوقني براعة في مجاله العلمي في جامعات عالمية مرموقة لا أظن إني حين أبلغ سن أصغرهم، سأكون بمثل تفوقه العلمي.
وفي المقابل تدنت درجاتنا فيما يخص العلاقات الإنسانية، نعم العلاقات الإنسانية، وقد حاول المحاضرون أن يشرحوا لنا أنه لا يوجد أحد بيننا طيب وآخر شرير، إلا أن نتائج الاختبار تشير أننا نكون أكثر اطمئنانًا إذا ما تعاملنا بلغة الأرقام والحسابات والأدلة والبراهين، وأننا نعول قليلًا على حاسة الشعور والتفاعل مع الآخرين إنسانيًا. نعم إنهم يتحدثون عني فخلال عملي الذي ذكرته مثلًا كنت لا أفهم البكاء المستمر لإحدى المحاضرات حين كنت أحاول شرح لها أنه لا يمكن قبول محاضراتها مكتوبًا اسمها عليها وهي منقولة بالنص دون أي تغيير من كتاب معروف بين الأوساط العلمية في هذا المجال، ولم أكن أفهم دفاع الآخرين عنها، ولم أكن أفهم لماذا تبكي من الأساس في حين أنه يمكنها الاختيار ما بين أن تقول ببساطة "أنا لن أعد أي مواد علمية وسأعمل بالمراجع"، أو أن تختار أن تعد مادتها العلمية الخاصة وتضع اسمها عليها.
ذاك واحدًا من مئات الأمثلة عن عدم قدرتي على التفاعل إنسانيًا، قد أستطيع أن أذكر منها أيضًا أني شاركت في غُسل جدتي من أبي، وخرجت لم أذرف دمعة واحدة. لذلك آمنت بنتيجة الاختبار، وتذكرت أيضًا تقصيري في العمل التطوعي الذي كنت قررت أن أتعامل معه من زاوية واحدة هي الزاوية المادية البحتة. 
صادف توقيت تلك الحصص، مقتل أخينا خالد سعيد، وتابعت الوقفة الأولى بإهتمام واستغراب، ولم أكن أفهم كثيرًا ولا أتابع كثيرًا أحوال البلد تحت مسمى السياسة، إنما بمنطق أن البلد أوضاعها متردية. وحين عدت لمصر بعد رحلة قصيرة كان فجر يوم الوقفة الثانية، وبسبب فرق التوقيت الواسع لم أستطع النوم، وقررت النزول للمشاركة في الوقفة الثانية في محاولة مني للتضامن "إنسانيًا" مع جريمة بشعة، كانت قد أحبطت أمي، التي كانت تتلو عليّ هلعها مرة بعد الأخرى من المشهد حين كنت أهاتفها لأن وجه "خالد" يذكرها بوجه جدتي وأمها التي توفت في حادث سيارة، كما كان يذكرها وجه "خالد" بأخي الصغير المسافر، إلى جانب أن بيتنا لا يبعد كثيرًا عن بيت خالد، وكثير من التشابهات الأخرى التي قد جعلت أمي تحاول مرارًا أن تقنعني أنا وإخوتي أن يثبت كلُ منّا في أي بلد هو فيها، ولا نعود، لأن "البلد مش بلدنا". ونعارضها جميعًا نحن في ذلك، حتى وإن كانت الظروف إلى الآن تضطر اثنان من إخوتي إلى البعاد.
في الوقفة الثانية، نزلت بالكاميرا الجديدة، كان أول استخدام لها، وحاولت تغطية الوقفة، والتدرب على التصوير، لأني لم أكن أفهم ما الجدوى من الوقوف "ساعة صامتة" ففضلت المشاركة بالتصوير، وظللت أشارك هكذا إلى يوم 25 يناير، كان ما أحمله معي في هذا اليوم كذلك هو الكاميرا ذاتها.
خلال 2010 كنت كل ما أقوم به هو المراقبة ليس بالكاميرا إنما بعقلي محاولة إدراك ما يحدث، إذا تعذر عليّ في كثير من الأحيان التقدم في الأبعاد التي باتت تأخذها قضية "خالد سعيد"، فلم تتوقف عن كونها ثأرًا مع قسم شرطة (سيدي جابر) بل إمتدت إلى الداخلية وفتح ملفات التعذيب ثم كيف أن الداخلية هي ذراعًا أساس وركيزة لنظام مبارك للبطش في خلق الله واستمرار وجوده في أعلى كوم الوسخ الذي لا أعلم له اسمًا ولا وصفًا.
مخبرون:
وخاصة عندما بدأ تحدي مدير الأمن "محمد إبراهيم" وكلابه، بنزولهم لنا في مظاهرة تلو الأخرى، والقمع والمطاردات ومحاولات الاختطاف. لا أجد لهم وصفًا آخر فقد كان ذلك ما يُوحي به مشهدهم حين يخرج من سيارته ويمشي في وسط مجموعة من مرتدي نظارات الشمس حتى حين كانت الشمس قد غربت عنّا. بدأ في ذلك الوقت استيعابي وجود من يطلق عليهم الإعلام "نشطاء سياسيين" و"حقوقيين"، وكنت أرى منهم من يُطارد أو يُضرب أو يُسحل أمام عيني، وأجد منهم مقاومة وثبات وإصرار. تفاعلي مع تلك المشاهد، لا حول ولا قوة، مضحك وسخيف، فكنت أطوي شاشة الكاميرا حين تشتد المطاردات ويكثر المخبرون في كل مكان ويبدأ الضرب والسحل، فكنت أخفي الكاميرا داخل كمي حين كنت أجد التصوير ما يزال ممكنًا بغير ضرورة أن أتابع على الشاشة، وكان يصل الأمر في بعض الأحيان إلى الاضطرار أن أتجمد مثل عامود إنارة مثلًا أو أتصرف كأني أحد المارة، وأبدأ تمثيل علامات الاستغراب وأتسائل عم يحدث وعن سبب المطاردات.
ذاك ملخص بدء معرفتي بالشارع ونضاله النقي، فخلال 2010، أصبح بالنسبة إلىّ هؤلاء من يطلق عليهم الإعلام "نشطاء سياسيين" أبطالًا وأصحاب قضية، هم فتيان وفتيات، من زمن الفرسان الذين أقرأ عنهم في كتب التاريخ القديم ولا نقابل منهم أحدًا في أيامنا هذه. هم يمتلكون أدواتًا مختلفة لتلوين البحر بأكثر فاعلية وواقعية واستدامة. هم حقيقة وليسوا حلمًا أو أملًا نواسي به أنفسنا أن الحال سيصبح أفضل إذا ما اجتهدنا في دروسنا أو أعمالنا، لأني كنت قد أدركت تمامًا وجود الثقب الكبير الذي يذهب عن طريقه جميع ما يقوم به أي شقي على هذه الأرض إلى جهات ومجموعات محددة من الأفراد ولا عمل مما نقوم به يصب في صالح البشرية عن جد.

غَشتني تلك الأداة الجديدة كليًا وتوضأت ايمانًا بها، من النصف الثاني من 2010 إلى أشهر قليلة بعد 25 يناير 2011، حتى انفجرت بوجهي تلك التي لم تكن إلا بالونة قد مُلئت هواءًا، في الغالب.

في التدوينة أو التدوينات التالية، أرصد خروج الهواء متدفقًا من هذه البالونة.

---------------------------------------------

قليل من الثورة ... كثير من التكشف: الحلقة الثانية
قليل من الثورة ... كثير من التكشف: الحلقة الثالثة
قليل من الثورة ... كثير من التكشف: الحلقة الرابعة