20 أبريل 2012

قليل من الثورة ... كثير من التكشف: الحلقة الثانية


قليل من الثورة ... كثير من التكشف: الحلقة الأولى

---------------------------------------------
في هذه التدوينة نرصد كما ذكرنا، خروج الهواء متدفقًا من هواء بالونة الشارع الثوري، ومن داخلي أيضًا. أتمنى ألا يكون أحدٌ قد أعد نفسه لأن يستمع إلى موال الصدمة في الآخرين وعدم القدرة على تصديق أن مثل تلك الأفعال والمعتقدات يمكنها أن تصدر من الآخرين، وإن كان ذلك رهط التدوينة، بيد أن مرحلة التكشف قد شملتني أنا أيضًا، أنّ لي أن اُستثني من ذلك الغربال الشديد.

سبق وأن رويت أن خلال تظاهرات النصف عام من 2010 كانت يتواجد المخبرون أو معاونو "الأمن"، هم الذين يتواجدون بزي مدني، لا بنمط الروايات، مرتدين معطفًا مرفوع الياقة وقبعة صوف، ولكن كان دائمًا من السهل التعرف عليهم. وكان الأمر يسيرًا خلال تلك التظاهرات لأنهم كانوا يقفوا دومًا إلى جانب رجال الشرطة، وقليلًا ما كانوا يتواجدوا بين المتظاهرين لتوريطهم. أذكر مثلًا في وقفة 9 يوليو من أجل "خالد سعيد" نصح أحدهم يدعي أنه يعمل صحفيًا الشباب بأن يعبروا شارع الكورنيش ويقفوا عند مسرح السلام للتخلص من حصار الأمن المركزي، وما لبثت أن قامت مجموعة بذلك، حتى يسر ذلك على الأمن تفريق المتظاهرين، وقيام مجموعات من الأمن المركزي قادمة من إتجاه متعامد على الكورنيش بحصار شباب مجموعة مسرح السلام والاعتداء عليهم بالضرب بالهراوات.
مندسون:
في بدايات 25 يناير 2011 والموجة الأولى الأحب إلى القلب، لم يكن - مهما كثرت أعداد المندسين - ممكنًا أن يكون لهم تأثير يُهدد ذلك الجمع الغفير، لا أذكر حتى أني رأيتهم. أظن أن السبب ليس فقط للأعداد الكبيرة بل أظن وقتها كان لايزال لديهم "أمل" فكان لايزال هناك فريقان، ونذكر مجموعات "آسفين ياريس" حتى بالاسكندرية، ولا أروي إلا عن الاسكندرية، فلم أشهد أي تظاهرات إلا بها. كانت لا تزال تلك المجموعات تهتف للمخلوع وللشرطة، وكانت أكبر تلك التظاهرات المؤيدة للنظام القديم، يوم موقعة الجمل، بميدان سموحة بأول شارع مديرية الأمن، الذي شهد أحداثًا دموية بنهاية عام 2011 على يد نفس المجموعة. ففي يوم موقعة الجمل، قام أحد كبار الحزب الوطني بتوفير جماهير مؤيدة للمخلوع وتهتف تحية للشرطة التي قد اختفت منذ يوم 28 يناير، وظهرت بعض قياداتها على استحياء في ذلك اليوم وفي حماية رجل الحزب الوطني هذا، وقام زميله بتوفير جماهير بلطجية تطارد الثوار إلى كوبري قناة السويس، وأصابت منهم العديد.

لا أعلم ولا أذكر حقيقة عند أي لحظة ولأي سبب، ظن الثوار أن عمل رجال نظام المخلوع قد انتهى بعد فشل ذلك اليوم بالنسبة لهم، أمام ثبات وإصرار المتظاهرين.
وعندما تعطلت حركة العمل جزئيًا، في المحافظة، بدأت أعدادٌ كبيرة في النزول والمشاركة في التظاهرات، ساهم في ذلك الإعلام الذي أصبح، دون مقدمات، بعد فشل الخطاب العاطفي لمبارك، يغطي اعتصام ميدان التحرير ليلًا ونهارًا وفي أحيان كثيرة يدعو للنزول بطريقة أو بأخرى. لا أذكر رؤية المندسين، بالطبع مع عدم تجاهل وجود بالطبع نشالين وأيضًا وبكل أسى أفراد عصابات خطف الأطفال، أذكر في أيام عدة، عند مسجد القائد إبراهيم، كان ينادينا أحدهم متوسلًا إلينا البحث عن طفل أو طفلة بمواصفات محددة، فقدهم أهلهم في الزحام، كلما ذكرتهم إلى هذه اللحظة ادعو الله أن يردهم إلي أهليهم ويقر أعينهم بهم.

بعد التنحي، سعدت الغالبية بـ"الانتصار الساحق" وظنت أننا قد أتممنا المهمة على أكمل وجه. لم يمر إسبوعان بحسب ما أذكر، حتى كانت أولى جلسات محاكمة قتلة خالد سعيد بعد 25 يناير وأظن كانت الجلسة الثالثة أو الرابعة، ولم يأت القضاة، وانقسم المتظاهرون جزءًا إلى قسم شرطة (الجمرك)، حيث كشرت الداخلية سريعًا عن أنيابها بتهديد أهالي ضحاياهم، واقتحام بيوتهم، وظل جزءًا آخر أمام المحكمة، التي كان من المقرر إقامة الجلسة بها، وبدأت تبرز في وسط الأعداد الصغيرة شخصيات غريبة عليّ، في طريقة الحديث وفي مقتراحاتها "الثورية"، لُمت نفسي لاستغرابهم بأنه لا شيء يستدعي أن نكون نمطًا واحدًا.

وكشفت الأيام والأسابيع والوقفات والتظاهرات التالية لهذا اليوم بالذات، أن كان من حقي الاستغراب، وأن هناك إندساس على مستوى عالِ يفوق بمراحل ما كنت أراه خلال 2010 وفي خلال الشهور التابعة.

كنت لا أجد خوف وقلق ما قبل 25 يناير، فلم أتجنب التعرف على نشطاء الإسكندرية وعلى الأخص من كنت أراهم في وقفات خالد سعيد، ذلك بأني "متأكدة منهم".
وتعرفت على موقع (تويتر) على بعضٍ آخر، فكنت أعرف البعض مسبقًا على الأرض، ثم أتابع حسابه على الموقع، أو العكس، وبدأت محاولات من البعض لتكوين حركات أو إنشاء مبادرات أو الانضمام لحركات موجودة من قبل 25 يناير، وحضرت اجتماعات وندوات لبعضها. ثم كانت (تويت ندوة) بنهاية شهر يونيو 2011 التي كان لها الفضل في مقابلة الكثير ممن أتابعهم على (تويتر) ولم أكن قد قابلتهم حقيقة أو بالأخص لم تأت فرصة للتعرف عليهم.

ثم كان اعتصام 8 يوليو، الذي شاركت فيه بدءًا من إسبوعه الثاني، فور عودتي من رحلة قصيرة خارج مصر لحضور مؤتمر علمي، وتعرفت في أثناءه على كثير من "صغار الثورة" بالطبع أتحدث عن الأعمار، وإن كان غالبهم بدأ الثورة مع الثورة، وسعدت بالتعرف عليهم جميعًا، وإلى الآن في كثير من الأحيان أغبطهم لمرورهم بهذه الرحلة في هذه السن الصغيرة.
كالعادة وبالطبع، لا أقف كثيرًا عند الأشياء السارة المبهجة حلوة المذاق، مرة أخرى تأخذني المراقبة إلى حيث ما يؤرقني، لأني لا أستطيع أن أستمتع بشيء أو أسعد به وأنا أرى واضحًا ما سيفسده عما قليل.
كان أمن ميدان الاعتصام مخترقًا اختراقًا سافرًا، بل تستطيع أن تذهب إلى أن أمن الميدان كان الاختراق ذاته. هل تذكرون اليوم الأول من رمضان حيث تحول أمن ميدان التحرير مرة واحدة، عند وصول قوات الجيش، على المعتصمين وتسلم خوذة وعصي وبدأ الضرب وإرشاد القوات عن المعتصمين لتتبعهم وضربهم أو القبض عليهم؟
لم نصل إلى هذا الحد في الإسكندرية، ولكن الإندساس أخذ أشكال عدة، وكانت أحداث المنطقة الشمالية في الـ22 من يوليو إحدى الشواهد الكارثية، التي قادتها تلك المجموعة وورطت بها شباب الثوار، وتم القبض على بعض المندسين مع شباب الثوار وبالطبع، تم الإفراج عن الجميع بعد ذلك، وإن كان حصل بعضهم على حكم مع الإيقاف. وتكرر اليوم بحذافيره في القاهرة يوم الـ23 من يوليو وفقدنا محمد محسن - رحمة الله عليه.
أذكر أني في إحدى المسيرات، سمعت صاحب أحد المتاجر التي مررنا أمامها، وهو يشير إلى إحدى المجموعات المريبة، يصيح حالفًا أن هذا الرجل مأجور وأنه من منطقة سكنه، وأنه يعمل عند مسؤول مجرم. ولم يكن مني أنا، من تشعر بالأمان أكثر بجوار الأرقام والحسابات والأدلة والبراهين، إلا أن بدأت السؤال في بعض المناطق السكنية عن بعض المشكوك في أمر مشاركتهم في المظاهرات وقطعت الشك باليقين.
والسبب في ذلك، كان خوفي الشديد والدائم على الشارع النقي، لا أقبل أن تشوبه شائبة. ولا أريد أن أرى شيئًا يلوث هؤلاء الأبطال حتى يمضوا في نضالهم دون أية معوقات من هذا النوع. لا أخشى المواجهات والتظاهرات، فقط كنت أود في كل مرة أن يكون أي اشتعال للأحداث، إذا وقع، أصيل غير مفتعل. شتان بين مواجهة تشتعل بين الأمن والثوار ومواجهة يصطنعها معاونو الأمن بمختلف صنوفهم ويتورط فيها الثوار. وسعدت عندما بدأت مجموعات هنا وفي القاهرة تتبع هؤلاء، وتفضحهم من مبدأ أمن الثوار أيضًا.
بسبب هذا وذاك، لم يكن مني إلا أن طلبت بأشكال عدة من "صغار الثوار" ألا يشاركوا في أي مظاهرة أو مسيرة إلا بجوار فلان وفلان وهذه المجموعات، لأن هؤلاء هم "النشطاء القدامي" و"الأبطال الحقيقيون" وأي كانت تحركاتهم فهي آمنة وهم أكثر خبرة بالشارع حتى لا ينجروا وراء أي مندسين مهمتهم إشعال الموقف. تدريجيًا بدأ الصغار الإلتحام مع الكبار، لا أرجع الفضل لطلبي بأي شكل، لكن أظني ساهمت بتوضيح ما أرى وقتها، وكان ذلك مطمئنًا كثيرًا لي، على سلامتهم، خاصةً أني لن اتحمل تأنيبي نفسي عدم مشاركتي بتظاهرة، قد يقع بها مكروهًا لأحدهم.
ومن ناحية أخرى، لم يكن طلبي "محببًا" إلى قلب هؤلاء النشطاء، فقد كانوا يرفضون بشتى الطرق فكرة الإندساس، وأن "أتهم" أحدهم أنه غير حقيقي وأنه يعمل مع الأمن، مهما سقت من أدلة واضحة وضوح الشمس، وكنت أُتهم أحيانًا بالطبقية. أذكر حتى في يوم من أيام اعتصام طلبة الجامعة ضد "هند حنفي" الرئيسة السابقة، حين وجدت شابًا يصيح بالمعتصمين ويحتسب الله فيهم لوقف الحال لأن له أوراق وأنهم سيضيعون دراسته ومستقبله، كنت أعرفه لأنه عامل البوفيه في القسم الذي كنت أعمل به وهو ليس طالبًا، وأن هناك من أرسله. وقبل أن أترك المكان، طلبت من أحد الطلبة المعتصمين التخلص منه بهدوء، وانقلب هذا الموقف إلى قصة مضحكة، ولم يقف عندها أحدٌ كثيرًا.

مع الوقت ووقوع أحداث متتالية، وضحت الرؤيا تقريبًا لدى الجميع وضوح الشمس الساطعة، أبرزها طريقة سحب الثوار إلى مديرية الأمن ومقتل بهاء السنوسي وشريف سامي - تغمدهم الله برحمته.

لم يمض وقتًا على اطمئناني بأن الأمور ستعود إلى نصابها فيما يخص نقاء الصفوف الثائرة، حتى عادت أسباب التكدر، هذه المرة من الإتجاه المعكس.
علمت أن قليلًا ممكن أدركوا المخطط كاملًا، المتمثل في تقدم المندسين الصفوف لإشعال الموقف، وتوريط المتظاهرين ومن ثم الإنسحاب بعد تمكن الأمن منهم الذي يضرب دائمًا من الصف الثاني، وإن مس أحدًا من الصف الأول، فأجره محفوظ، قرروا لوقت أنه لا مانع من تحمل وجود المندسين مؤقتًا، طالما أنه يوجد توافق في لحظة إشعال الموقف، وبعد أن يتم الانتقام والثأر من الأمن، سيأتي دورهم بعد ذلك. هذه القلة أدركت إن هذا ليس هو كفاح المناطق الشعبية كما كانوا يعتقدون، وأدركت أن هؤلاء مندسون من قبل الأمن، لكن قلة عددهم بجانب ظنهم وثقتهم إنهم يستطيعون تغيير البوصلة عندما يريدون ذلك، جعلهم ينتهوا إلى استكمال المواجهات مع وجود المندسين.

تمهل يا إدراك ويا عقل، وانصفني! أليس هذا ما نبغضه في الجماعة؟ ألا نكره جلوس الجماعة مع العسكر، والتي تدعي أنه أيضًا أمرًا "مؤقتًا" لحين مرور الأزمة، ظنًا بأنهم حين يتمكنوا سينقلبوا عليهم ويضعوا العسكر في حجمهم الطبيعي؟
كم مرة ساءنا تصرف "حسن البرنس"، قائد مسيرات الجماعة في الاسكندرية، حين كان يدخل المنطقة الشمالية العسكرية، ثم يخرج قائلًا "لقد أوصلت مطالبنا إلى المجلس، عودوا إلى منازلكم؟" وأطلقنا على تصرفهم اسم "ثورة إلى الساعة السادسة"؟

لم أكن اتحدث كثيرًا عن تنامي تحفظاتي على الشارع "النقي" في العلن، لأني كنت أظن أن الوقت غير مناسب لذلك، الاتهامات تنهال علينا كما السيل، لا ينقصنا فقع الدمامل الآن. حتى وبعد أن حدثت مشكلات في اعتصام سموحة، وكانت المشكلات مادية، متمثلة ببساطة في أن من يجمع المال للاعتصام لم يكن مؤتمنًا عليها، فبعد أن ائتمنه المعتصمون وهو بالنسبة لهم ليس ابن البارحة، هو قديم بنضال الشارع. وعندما رُويت لي القصة، طلبت متمنية منهم ألا يحدث عراكًا يسمعه "الجيران"، ولم تكن القصة تروى لي لأن لي تصرفًا في شيء، فقط كانت الرواية من باب العلم، وبالمثل أبديت أمنيتي فقط من باب الإدلاء بالرأي.
بعد انتهاء المواجهات التي كانت في كل مرة يبدأها وينهيها- وفقًا لإدراكي- الأمن وليس الثوار، عادت المجموعات الناشطة إلى تنظيم الصفوف عن طريق حركات ومبادرات جديدة أو مطورة للقديم.

التدوينة القادمة عن خروج الحجم الأكبر من هواء بالونة "الشارع النقي"
---------------------------------------------
قليل من الثورة ... كثير من التكشف: الحلقة الثالثة
قليل من الثورة ... كثير من التكشف: الحلقة الرابعة

هناك تعليق واحد:

  1. في قول منسوب الي سيدنا عمر رضي الله عنه احترس من الناس بسوء المظنه والمقصود بالناس هنا هؤلاء الغرباء عنا وبالذات الذين تكن لهم تصرفات اكثر هوجائيه وربما اكثر شجاعه واقدام ظاهريا هؤلاء يستحقون منا المراقبه عن كثب وبرويه حتي نتبين منهم الخبيث من الطيب وحتي نطمئن ان الثوره تسير علي الطريق الصحيح حسنا فعلتي فلم تكوني ابدا طبقيه فقط واعيه تحسبين للأمور حسابها جيدا

    ردحذف