21 أبريل 2012

قليل من الثورة ... كثير من التكشف: الحلقة الثالثة

قليل من الثورة ... كثير من التكشف: الحلقة الأولى
قليل من الثورة ... كثير من التكشف: الحلقة الثانية

---------------------------------------------

نعلم أن وقت تنظيم الصفوف وإنشاء الحركات والمبادرات، نحتاج كما أيام الاعتصام أو التظاهرات إلى بعض الموارد المالية.

تبين لي للأسف الشديد، أن بعض النشطاء ممن قدموا تضحيات لا يقدر عليها الكثير، إذا لم تؤت تضحيتهم ثمارها على طريقة الوجبات السريعة، فإنهم يبحثون عن تعويض، وكنت أظن أن هذا التعويض معنويًا، مثل حاجتهم للتقدير الزائد أو حب الظهور أو مثلما جماعة الإخوان الحديث عن الحق في سلطة مقابل ما قدموا من تضحيات. لكن اختبار الأموال كان كاشفًا وقاسيًا، حين لم يمانع بعض من هؤلاء النشطاء القدامى في تقليب الآخرين في مساهماتهم المادية، والاحتفاظ بها لأنفسهم. وقد كانت القسوة في محاولاتهم تفسيرهم للاحتفاظ بهذه الأموال، وطريقة اصطحاب ضمائرهم إلى سبات عميق، والتعليل بحقهم في هذه الأموال والأهداف الأسمى التي ستحققها هذه الأموال المغتصبة بغير وجه حق.

زائفون:
أظني وصلت أخيرًا بعد مقدمات طويلة إلى لب تلك التدوينة، أطالع الآن قصاصات أوراق والصور من هذه الرحلة الحديثة:
. عندنا جماعة الإخوان المسلمين الذين لا يمانعون الجلوس مع موظفين من الحكومة الأمريكية أو ممثلين من المجلس العسكري، معللين ذلك بأن تلك هي "السياسة"، التي تضطرهم إلى بعض الاتفاقات، ويحاولوا إقناع أنفسهم وإيانا أن ذلك وضعًا "مؤقتًا" لحين تمكنهم ثم أنهم سيقومون بتحقيق العدالة الناجزة وستقوى شكيمتهم وسيصبحون اليد العليا، وسترضخ لهم أمريكا ومن يعمل تابعًا لدى أمريكا؛
. عندنا جماعة الإخوان وأحزاب "الشعارات الإسلامية" التي شنت هجومًا ضاريًا على شركة المحمول بعد أزمة "ميكي ماوس" وانساق ورائهم الكثير، وكان إلحاح أصدقائي منهم بالتخلي عن خط 012 والتعامل مع أي شركة أخرى ويفضل 011، لأنهم في نهاية المطاف منّا، رغم أن الحقيقة أن كلاهما ليسا منّا، فقط أحدهما يتحدث بنفس لغتنا وما الاثنان إلا وجهان لعملة واحدة.
كنت أعلم منذ اللحظة الأولى أن الحرب "المدافعة عن الدين" زائفة وإنما هي حرب رجال الأعمال، لقد قضيت وقتًا في الجامعة صديقة لأخوات من الجماعة وإلى الآن وأحضر عدد من دروسهم ومناسباتهم وفاعلياتهم وأعلم كيف يفكرون، مع إنهم يصرون في كثير من الأحيان أني لا أفهمهم، وأحيانًا أخرى يبادرونني بالعبارة المعتادة "لماذا تكرهوننا؟". وتيقنت من زيف تلك الحرب، حين روت لي إحدى الصديقات المنتمية لحزب الجماعة، أنهم "جماعة الإخوان المسلمين" قد عرضوا على رجل أعمال شركة المحمول شراء حصته في الشركة، ولم يلق عرضهم قبولًا، لك أن تتخيل قدر الدعاية المعاكسة  إذا ما حدث القبول، وكيف كان سيحدث إلحاحًا معاكسًا لنغير جميعًا إلى خط 012.
ما يسوء في هذه القصة هو تطويع الدين وحشد الناس لأغراض مستترة، أعلم جيدًا وفق معرفتي بفكر الجماعة، أنهم يحللون ما يقومون  به بطرق عدة، ويؤمنون أن تمكينهم من كبرى الشركات هو نصر لهم، وكل ذلك "مؤقتًا" في سبيل الهدف الأكبر التمكين وتحقيق الشريعة والعدالة "فيما بعد". ومايسوء أيضًا عدم تعادل قوة تفاعلهم مثلًا في قصة "ميكي ماوس" هذه، في مقابل تعاطيهم مع المذابح المتكررة في نهاية 2011 وبداية 2012 على يد العسكر.

. عندنا من يظن الجميع أنه ناشط مناضل وهو الزيف بعينه، كيف يثور شخصًا على نظام، ثم يهدأ ليؤسس حزبًا جاء تمويله من أحد أفراد ذلك النظام الفاسد؟ عن شركة القلعة وحزب العدل اتحدث.

. عندنا قلة من النشطاء قبلت بوجود المندسين في تلك اللحظة التي يتوافق فيها شكل مواجهتهم مع الأمن مع مواجهتهم، ويقنعون أنفسهم أن ذلك بشكل "مؤقت" ولم تتخلى هذه الفئة عن الفكرة إلا بعد خروج الأمور عن السيطرة بوفاة اثنين على يد سفاحي الأمن.
. عندنا قلة من النشطاء تقبل بالاحتفاظ لنفسها ببعض من أموال زملائهم، وهم مضطرون لذلك "مؤقتًا" لأنهم سيستخدمونها في أهداف نبيلة، ونظرًا لخبرتهم القديمة في النشاط السياسي فهم بالطبع سينفقونها بأفضل ما يستطيع أصحاب تلك الأموال المستخلصة سواء من دخلهم الخاص أو حتى مصروفهم الشخصي. وفقًا لهم الأمر مجرد "سوء توزيع" للأموال بوجودها في يد أولئك، بينما يمكن أن تحدث إعادة توزيع فيصبح ذلك المال في اليد الخبيرة، أيديهم يعنون.

. عندنا ناشط مشهور لأنه سُجن ذات مرة منذ أكثر من عشر سنوات، حتى إذا ما أصبح مشهورًا ومدعومًا يعرفه الجميع، وأصيب في إحدى المواجهات بجرح سطحي في ساقه، يمكنه أن يصور ذلك الجرح ويرسله عبر الانترنت، ليعلم الجميع أن الناشط المناضل "مصاب"، وعندنا شاب في سن صغيرة أصيب إصابة بالغة في المخ أثرت بالسلب على إبصاره، حاول أن يتجاوزها في البداية بالابتسام وسط أصدقاءه ثم بعد فترة صار حاله كما يمكنك أن تقرأ في هذه الأسطر القليلة وما بينها:

.عندنا أيضًا قلة أخرى كافحت منذ اليوم الأول وحاربت الرأسمالية المتعفنة التي هي أس البلاء، وهي تهتف ضدها في المصانع والجامعات، ولا مانع لديها من تلقي أموالًا مصدرها تلك الرأسمالية، لأنهم يملكون من الذكاء والدهاء، أن يتلقوا أموالًا من أولاد الـ*** "مؤقتًا" وفي الوقت ذاته يحاربونها حتى تسقط تمامًا.
لا يندرج تحت بند الأسرار، على سبيل المثال، أن شركة مثل "بروكتر وجامل" وعن طريق البنك الدولي تمول مؤسسات لنشر الديموقراطية والحرية وكذلك المجموعات التي تعمل من أجل حقوق العمال ونشر "العدالة الاجتماعية". باختصار، الرأسمالية المتعفنة تغدق على حركات اشتراكية. كم عامل يُخصم من حقه حتى تحصل تلك الحركات على تمويل من الشركة التي يعمل بها حتى تدافع عنه ضدها؟!
والواقع أن هذه الحركات لا تنجح ولم تنجح قط، إلا في تحقيق شقٍ واحدٍ من شقي الأهداف التي تدخل بها تلك المؤسسات في مجتمعات مثل مجتمعاتنا، ألا وهو شق نشر مفهوم "الحرية"، ولكم مني سلام وتحية على الاشتراكية.
وقد تجلت قوتهم أثناء الدعوات إلى الإضراب في يوم 11 فبراير، لم تلق إلا قبولًا محدودًا ولم يكن لأهداف سياسية، ولم تحقق أثرًا ملحوظًا إلا بين الطلاب، المتلقين لجرعة أهداف تلك الحركات بشقيها، ولنعلم أن الأمن لا يتركهم في حالهم، فله من الطلاب من يجيدون "فن التمثيل" فيدسهم في وسط مثل هذه الحركات لتجميع معلومات بانتظام عن نشاطهم والتحقق أن كل الأمور "تحت السيطرة".

. عندنا مجموعة تعمل تحت شعارات حرية الفكر والتعبير عن الرأي، وهي لا تمتنع عن الاستهزاء بفكرك إذا كنت جزءًا من الأغلبية، أما إذا كنت أقلية، فستتمتع بقدر من الود والمعاملة اللطيفة. قد يكون الكلام غير واضح المعالم، عليّ أن أدرس تلك الحبة بمثال، حصل ذات مرة، أن شملتني حرية التعبير عن الرأي على موضوع ارتداء الحجاب بانتقادات لاذعة، وفي الوقت ذاته وجدت أن تلك الحرية ترى العزاء في رمز الأقلية واجب، مع العلم أن المجموعة لا تنتمي لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء،
تعسر عليّ أن أجد إلى جوارهم شيء من هذا اللطف الذي تلقته الأقلية، وتداركت أني كما الواقف في حديقة بانتظار ظهور سمك يصطاده. تداركت لأني أعلم أين أجد مثل هذا اللطف، حيث أكون أقلية، نعم حين أكون أقلية. ذلك حدث أثناء رحلة لي إلى بلدٍ بأغلبية سكان لا يدينون بالإسلام لحضور مؤتمر ودراسة صيفية، وحدث أن علق سياسيًا في الإعلام عن معاملة المحافظ للمسلمين معاملة حسنة بأنه يداهن الإرهابيين، فما كان إلا أن تحول المسجد في صلاة الجمعة التالية بعد الصلاة إلى مؤتمر ضخم، حضره كبار القساوسة وأحبار اليهود ومنظمات حقوقية. لنا أن نتوقع أيهم كان يفيض علينا لطفًا أكثر، بعض من تاركي المسيحية إلى "المدنية"، لم يتحولوا إلى أناسٍ لطاف، فهم يمزقون أهل ملتهم "السابقة" كل ممزق، لكنهم يتوددون إلينا تحت شعار احترام الآخر وحقوق الإنسان و... و... جميع المصطلحات التي يمكن أن نكتبها بخط عريض لأهميتها.
لماذا لا يغدقون أيضًا على أهل ملتهم السابقة بـ"حقوق الإنسان"؟ لم أجد إجابة لا هنا عندما كنت أغلبية، ولا هناك عندما كان آخرون هم الأغلبية. لكن يمكن أن نذهب إلى أنه لا يوجد فرق كثير بين الذين يتكلمون من منطلق سماحة دينهم وهم لا يحسنون إلى الآخر أو هؤلاء الذين يتكلمون من منطلق حرية الفكر ويمزقون الآخر.

. عندنا بعض منظمات المجتمع المدني الممولة بشكل قانوني، تحدث عنها ذات مرة محامي وناشط حقوقي مفسرًا، أن الحكومة الإنجليزية تخفض الضرائب على بعض الشركات في مقابل تبرعات يقومون بها، وتخيرهم ما بين المساهمة في تمويل حرب العراق وأفغانستان أو دعم منظمات حقوقية في دول متأخرة فاختارت الشركة التي تمول منظمته، الاختيار الثاني لرفضهم تمويل الحرب. أراك تختم قفاي بوسم "#مغفلون"، هل تنتظر منّا أن نفهم أن الحكومة الإنجليزية تخير الشركات المتبرعة ما بين الخير والشر، فاختارت الشركة الخير ومنحتكم تمويلًا؟ هل لا تريد أن نستوعب ما تحمله تلك المؤسسات بجوار المعلن، ندرك ونقدر جهودكم في مساندة ضحايا التعذيب والقهر بكل ألوانه. لكن رجاء إليك عني بقصة الخير هذه!
 خلال عملي كمترجمة مستقلة يمر عليّ صنوف من الوثائق والمستندات في مجالات شتى. ذات مرة منذ عامين أو أكثر قُدم إليّ عرض مغري جدًا من أحد مكاتب الترجمة، وكان الموضوع المعلن في جميع مراسلات المكتب أنها أوراق خاصة بـ"المرأة والطفل" في الدول المتأخرة، وأن التخصص اجتماعيًا، وأجريت اختبارًا ولقيت القبول، إلى أن أُرسل إلى الأوراق المطلوب ترجمتها، وهي ليست أوراق سرية، هي أوراق موجودة على الموقع الإلكتروني لمؤسسة تابعة للاتحاد الأوروبي خاصة بالتعاون بين دول حوض البحر المتوسط شماله وجنوب.
مررت سريعًا على الورق، منتهي العبث، حقوق المرأة هذه التي أتوا ليصدروها إلى تلك الدولة العربية التي يعيش بها السُنة والشيعة. اذكر على سبيل المثال، مقطعًا خاصًا يتحدث عن جعل الميراث قانونًا مدنيًا، فيتساوى إرث الولد والبنت، ولا يُدرج إخوة الوالدين في حالة وجود بنات فقط، انظر العلة أو المدخل "حسن النية"، "بدلًا من أن يضطر الأب السُنيّ أن يبدل دينه إلى الشيعة ليحفظ ثروته لبناته فقط، لا تترك معتقداتك بسبب الإرث، نحن لدينا الحل، نجعل قانون الميراث مدنيًا وتظل أنت على ملة أهل السُنة"، مقطع آخر يتحدث عن تعدد الزوجات ونسبته ضيئلة جدًا في هذا البلد ولا يتجاوز الزوجة الثانية في بعض المناطق الريفية، لكن تلك المنظمة تعده انتهاكًا لحقوق المرأة. لا أعلم كيف يرى كاتب هذه الوثيقة وضع الزوجتين أسوأ من وضع عاصمة بلده المشهور رجالها بأن كل منهم لديه عشيقة إلى جانب زوجته. لماذا لا يهتم بشئون بلده ويحاول إيجاد حلًا لما أصبح وسمًا على جبين بني بلده؟
وأعتذرت عن عرض العمل بطريقة غير محترفة أو مهنية، فكان لدي الإمكانية أن أكتب أي سبب موجز، لكن الغيظ تملكني حتى وبعد أن هدأت، كتبت سؤالي الأخير هذا إلى مكتب الترجمة متضمنًا في الاعتذار.
. بنفس المنطق كان منذ سنوات قليلة انحشار الحكومة المصرية في قانون تزويج المسيحيين الأرثوذكسيين بعد الطلاق، وكان رد البابا شنودة أن هذا دينهم ومن يلجأ إلى المحكمة بهذا الشأن فليفعل ما يشاء وهو خارج الطائفة، فإما أن تتبع الدين بكامل أحكامه، أو تعلن خروجك إلى طائفة أخرى تجيز ذلك. لم يحدث ذلك بموجب الشريعة الإسلامية التي بمقتضاها يحتكم كل أهل دين إلى كتابهم في الشئون الخاصة (الزواج والميراث إلخ) ولكنه حدث بتدخلات بعض من منظمات المجتمع المدني التي تعمل من خلف الستار تارة وفي العلن تارةً أخرى متعاونة في كل الأحوال مع حكومة سوزان مبارك راعية الأسرة المصرية.

. عندنا كذلك مؤسسات كثيرة موجودة بشكل قانوني تام تعمل بنفس النمط منها رابطات عالمية لها أفرع في بلدك، تحاول حاليًا، بعد 25 يناير، الإندساس والتداخل مع الحركات والمبادرات بنفس المسميات "برنامج الشباب" أو "تشجيع الشباب" أو تمكين الشباب"، وحيث أن أغلبية كل أعضاء تلك الرابطات من أصحاب المصالح "العليا" في البلد، فلا ننتظر منهم خيرًا لهذه الثورة، بل إن غالبهم يتعاملون كما بشاوات انقلاب 23 يوليو، يظنون  أن التيار "المتطرف" قادم ليقيدهم وأن هناك بعض الصعاليك ممن جاءوا ليقضوا عليهم ويهدفوا إلى حرمانهم من ثرواتهم الخاصة، وإن صح ذلك في الانقلاب العسكري الذي يسمى بالثورة، فإن ذلك غير صحيح بالمرة في 25 يناير.

نعلم أيضًا أن الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي هي كيانات قانونية، يحسب الكثير، أنها طالما تدخلت باتفاقات دولية في بلدنا، ألا بأس بها وأنها لنفعنا الخاص، ويظنون أن برامج منح الFulbright وUSAID وUNDEP وErasmus Mundus هي برامجًا تحمل الخير لمصر طالما إنها أتت بموجب "قنوات شرعية".

. عندنا على مستوى البلد، جموع الباحثين عن المنح الدراسية، هل قرأت يومًا عن "Brain gain Vs Brain drain" ، مكسب العقل في مقابل تصفية العقل، هل تهدي الحداية فراخًا؟ لماذا المنح الدراسية من الجامعات الأجنبية؟ لأسباب عدة، نسوق منها واحدًا أو اثنين، راقب بخاصة الباحثين بمجال العلوم والهندسة والطب والزراعة، عندما يسافروا للحصول على درجة علمية، لا يسافر كل من يريد السفر، هناك امتحانات مختلفة للمهارات تعمل على فرزهم، ثم إنهم يذهبون ولا يعودون بالغالب، لماذا؟ لأن جميع الخطوات محسوبة منذ البداية. تشترط عليك الجامعة أنك ملتزم بالعودة فور انتهائك من الدراسة وحصولك على الدرجة حتى تخدم بلدك، وتوقع على أنك لن تعود مرة أخرى في أغلب المنح قبل فترة 3 سنوات مثلًا، ويتشبع المتقدم للمنحة إيمانًا بأنه ذاهب ليحصل على هذه الدرجة المدعمة بمنحة أجنبية، ليعود ويخدم بلده، كم أنت حنون أيتها الدولة الأجنبية! كم أنت خبيثة أيتها الدولة الأجنبية! لا يدرك البعض في البداية إنه عندما يعود بالدرجة، لن يعود ليجد المعامل البحثية التي كان قد يعمل بها في جامعة الدولة الأجنبية، سيعود للمعامل المتهالكة، ذات المعدات التي تكآلت من الصدأ، والتي استقر بها العناكب والفئران.
لا يعلم أنه وهو عائد سيطلب منه مديره في الجامعة الأجنبية أن يعود ليستكمل البحث ويقدم له عروضًا مغرية، وأنه سيرفض ولا يعلم أنه سيعاود هو طلب ذلك بعد أن يرجع ويصطدم بعدم قدرته على تغيير الواقع المرير في الجامعات والمراكز البحثية في بلده، فإما أن يقبل أن يتحول إلى أستاذًا أكاديميًا يقضي الباقي من عمره يتقاسم مع الطلاب بعض من معرفته ويحتفظ بالباقي حتى يحفظ لنفسه بعض المكانة في "درجة أعلى" ويقص عليهم أمجاده في السنين القليلة التي قضاها باحثًا، أو أن يعمل في بلده في المشاريع البحثية التي تأتي أيضًا تحت مسمى الشراكة الأجنبية وتحت سيطرة أساتذة من الخارج أو أن يعود مرة أخرى إلى تلك الجامعة الأجنبية أو أخرى، ليجد التقدير المادي والمعنوي في مقابل أن يصبح ترسًا في الميكنة الكبرى التي تستنزف بانتظام عقول أبناء كثير من البلدان لصالح قليل من البلدان الخادمة بشكل مباشر للبلطجة العالمية.

أعلم أن البعض قد تلمع عيناه بنشوة الانتصار عند قراءة الشق الأول من هذه التدوينة أو عند قراءة الشق الثاني، أو كليهما، أو أنه لم يسمع جديدًا. تمهل يا من تلمع عينك ظنًا منك أنك قد وجدت سلاحًا يُمكِّنك من الآخرين، لا تسثني نفسك ولا استثني نفسي، ابحث في عملك وفي دراستك وفي نمط حياتك لكي تجد موضعك في تلك المنظومة مزدوجة المعايير التي تحولنا إلى مزدوجي النوايا.

. عندنا إحجامنا عن تحقيق سبب قدومنا إلى هذه الدنيا، لدينا صمتنا حين ينبغي الحديث وحديثنا حين ينبغي الصمت، لدينا اختصار أسباب الحياة فيما شببنا عليه ونود أن يشب عليه أبنائنا، المسار الأكثر "أمنا" للعبور في هذه الحياة، دراسة فعمل فأسرة صغيرة فقبر، ابحث من المستفيد الأكبر من عملك الذي تقوم به، بطبيعة عملك وكيفية قيامك به، ستجد نفسك جزءًا مكونًا مستديمًا لنظام إزدواج النية والاستنزاف المنظم للبشرية بأكملها من أجل قلة كل مايميزها أن موضعها أعلى قمة الوسخ.

وإن كنت تتسأل لم يترك "الأمن" مثل تلك الجهات أو الحركات، ذلك لأن غالبها مقننًا ولأنه ليس سرًا أن الأمن موجود لحفظ المصالح الخارجية على حساب الداخلية، إلا إذا أحب أن يقوم بمناورة ضد الخارج لمصالح "خاصة"، عندها سينقلب على القانوني وغير القانوني منها، هو يتركهم حين يريد وليثبت ما يريد. نوضح أكثر بمثال جريمة فحص العذرية، فقد دس الأمن حوالي ثماني فتيات يعملون لصالحه ليثبت نظرية محددة يقيم عليها فساده أمام الجمهور، كذلك يترك الأمن الأفراد الممولين يعملون كما تشاء الجهات الخارجية في وسط النشطاء والأفراد العاديين، بغرض خلط الحابل بالنابل في الوقت المناسب، وإدعاء أن الجميع على نفس النمط. ولن يعلم الحقيقة إلا من يتحقق ويتدقق للحصول على المعلومات، وقليلٌ ما هم.

كنت أظن كما ذكرت أن الوقت غير مناسب للحديث عن ذلك. لكن الوقت الآن، وليس بعد قليل، لا شأن لي بمعتقد أحد بالضبط كما لا شأن لأحد بمعتقداتي. ما يؤرقني الآن هو بدء تفشي انتشار المعتقدات المزيفة مزدوجة النية وتكاثر من بيوتهم من زجاج ويقذفون الآخرين بالحجارة، وكثرة من يتبعونهم ويقلدونهم.
قررت الكتابة بعد أن تراكمت الدواعي لذلك. منها أن نشطاء تقليب الآخر في ماله هم من كانوا يحذروننا بالأمس من فلان وفلان لأنهم يحولون النشاط الثوري إلى عمل تجاري وكانوا محقين فيما رووا، لأني تأكدت، لكن هؤلاء النشطاء بعد فترة وجيزة لم يفعلوا شيئًا مختلفًا عما كان منتقدًا بالنسبة لهم منذ قليل.
وكان من الدواعي أيضًا أن وجدت منشورًا هجومًا من أحد النشطاء على شخصية سياسية تحضر مؤتمرًا اقتصاديًا لا يحبه أعداء الرأسمالية، مشيرًا إلى أن تلك الشخصية مدعية، ولكنه المدعي، ذلك الناشط، الذي يعمل لنشر فكرة معاداة الرأسمالية حاصلًا على دعم من مؤسسات رأسمالية.
وكان من الدواعي كذلك، حين يتحدث إلىً أصدقائي "المتحمسين" للثورة ولم تشأ الظروف أن يشاركوا في الجزء الخاص "بالشارع"، بأسباب التدهور أن "شباب الثورة لم يُمكنوا"، وأرد عليهم بالصمت المتسائل "عن أي شباب ثورة يتحدثون؟". وعند هذا الحد، أستطيع أن أذهب إلى أن مزيد من الصمت يعني المشاركة في إضفاء الشرعية على الوهم.

أرأيت العسكر الذي يجلس مع جماعة ليمكنهم من التخلص منه؟ أرأيت الرأسمالية التي تغدق على أفراد كي يسقطوها؟ أرأيت الدول التي تعمل على تخريب عقول دول أخرى وتمنح المنح الدراسية لأبنائهم؟ أرأيت كبرى شركات السلاح التي تمول مؤسسات دعاة السلام؟ أرأيت شركات النهب المنظم للموارد الطبيعية التي ترعى نشطاء حماية البيئة؟ أرأيت جهات التطرف الفكري التي تمول مؤسسات الحوار مع الآخر؟ أرأيت الأرض الحرة، أرض الله الواسعة، التي قُطعت بخطوط طولية ودوائر عرضية فأصبح لك موطنًا يحدك، إن تجاوزته فأنت الغريب؟

هل وجدت موضع ترسك في آلة الاستهلاك الممنهج للبشرية؟ 

لا تتراكم تلك الأسئلة في رأسي مرة واحدة ولا ألبث أن أخفض رأسي مطأطأة إلى الأرض كاهلي مثقلًا بالاعتقاد في سيطرة وتسلط تلك القوى جميعًا، حتى تتقزم إلى أقل من عقلة الإصبع حين أتذكر الله، وقدرته وحكمته، في أن يُكتب مروري في هذه الدنيا في ذلك الوقت من الزمان، وأن هذه ورقة امتحاني، وأن على أن أجتهد في الحصول على الإجابات فأعتبر لربما أعبر.

لم يبق لي إلا أن أروي كيف أظهر لي طفلًا لا يزيد عمره عن السنوات الست، جانبًا من الزيف بداخلي، خلال سنة 2011 الكاشفة، ذلك موضوع التدوينة القادمة والأخيرة في هذه الحلقات.
---------------------------------------------

قليل من الثورة ... كثير من التكشف: الحلقة الرابعة

هناك تعليق واحد:

  1. تتكلمين عن زيف اصحاب الرسالات والدعوات واوصلك رأيك ان كل قيس يغني علي ليلاه وليلي هذه يوجد منها كثير اما من يحمل نفسه لارضاء رب العالمين وليوظف مروره في هذه الدنيا ليمر بها مرور الكرام وليخرج منها سالما غانما برضي الله فهؤلاء قليين وقليين جدا جدا حتي من يريدون او من يتكلمون انما يريدون الحكم ليرفعوا شعار الدين ليسوا كلهم سواء ولو صدق العزم وخلصت النيه لله لخلص التوجه بأمر الله الي الهدف مباشره مثال علي ذلك ال18 يوم الاولي من الثوره لقد هالني ذلك الكم من الناس يمشون في الشوارع بهدف واحد الخلاص ممن افقرهم وهانهم وكتمهم وخوفهم وكلل الله سعيهم بالنجاح وبدأمشوار جمع الغنايم للجميع ولا نستثني أحد فكل واحد له هدفه المقنع بنواياه علمه من علم وجهله من جهل وبدأ التخوين والاتهامات وجاءالفلول واصحاب المصالح ليفشلوا الثوره التي تهدد مصالحهم عادي ومتوقع وليجعل الله للناس رؤي وليمحصهم تمحيصا وليعلمهم ويريهم طريق الانتصار بأمر الله

    ردحذف