26 أبريل 2011

من الأرشيف: أولى محاكمات خالد سعيد (1)

وحد صفك: 

03 أغسطس 2010

في صباح أحد أيام صيف الإسكندرية، استيقظ باكرا العصفور وزوجته وطارا معا ليلتقيا بسربهما بعد نهاية الأشجار لبدء يوم جديد من البحث عن الطعام، فهما يتنقلا كل يوم من الأشجار التي توجد على أطراف المدينة إلى شوارع وسط البلد التي تعج بالحياة منذ الصباح الباكر؛ وبخاصة منطقة مثل منطقة مجمع المحاكم بالمنشية التي لا تخلو من عربات الأمن وعربات نقل المساجين والمحامين والعساكر والضباط طوال العام. نحو الساعة السادسة والنصف صباحا كان السرب قد وصل إلى كورنيش المنشية حيث الغذاء الوفير الذي ينتظرهم منذ البارحة من بقايا طعام المصطافين ومرتادي الشاطئ، وتفرقت العصافير عندئذ لبدء يومها الشاق للحصول على الطعام وجمع الطعام لصغارها. لم يهبط عصفورنا وزوجته على سور الكورنيش كالمعتاد فقد استوقفهم منظر عربات الأمن الكثيفة التي تحيط بمنطقة المحكمة بأكثر من المعتاد.
" سنجد الطعام حتما ولكن ما نرى يطوي نبأ عظيم، أنٌ لنا أن نتجاهله للبحث عن الفتات"، قرر العصفوران التواري خلف أحد مصراعي نافذة المحكمة لمعرفة الحدث الهام الذي أعد له هذا العتاد."

ظهرت فئة تحمل لافتات عليها شعارات وطنية قرأها العصفور بصوت عال "هل محاربة المخدرات تهمة؟" "القضاء ملاذنا والشرطة أمننا" "لا للعملاء أفيقوا ياشعب" وسألها باستغراب لم الحاجة إلى التظاهر بهذه اللافتات الساذجة؟ ومن هؤلاء؟". لم تكن العصفورة ترى ما يراه زوجها فقد كانت تنظر في الاتجاه الآخر إلى مجموعة صغيرة باعجاب، ولكنها كانت تسمعه فأجابت عليه باسمة: "انظر هنا ستجد الإجابة" مجموعة شباب يحملون علم مصر وصور خالد سعيد – رحمه الله وتهتف "خالد خالد ياشهيد دمك مش هايروح أكيد" "ولا عادلي ولا حبيب ارحل ياوزير التعذيب" "ياضباطتنا ياضبطاتنا إحنا إخواتكم وإنتوا إخواتنا" "ياقاضينا ياقاضينا هات حق خالد لينا"

ولم تلبس أن هتفت مجموعة الشباب على اليمين إلا وقد بدأ ينضم إليهم مجموعات وأفراد أخرى من كل حدب وصوب. انتقلت قوات الأمن التي كانت تحمي شباب جهة اليسار لتحيط بشباب اليمين بعمل نصف دائرة يكملها من الخلف حائط المحكمة. فما كان من الشباب إلا أن تقدموا تلقائيا في الصفوف الأمامية لحماية أخواتهم المتضامنات في الخلف وحتى حائط المحكمة. تبسم العصفور من سرعة البديهة وروعة المشهد الذي يراه من أعلى كما لو كانوا يصطفون لأداء الصلاة ولا حاجة لهم لمن يرشدهم عما يجب فعله. كعادة الإناث من جميع الأجناس بدأت تدقق العصفورة في تفاصيل المتضامنين، ففي صفوف المتضامنين رأت من ينم مظهرهم وملبسهم عن يسر الحال ومن يرتدي ثيابا متواضعة، من استكملوا التعليم ومن ترك التعليم في سن صغيرة ربما لينضم لسوق العمل لسد احتياجات أسرته وإخواته، ومنهم من هم في ريعان الشباب ومنهم من طبعت علي وجههم علامات الزمن. ثم انتقل بصرها إلى أقرانها من بني البشر فترى الفتيات والنساء جنبا إلى جنب والبعض منهن تحمل طفلا أو تمسكه بجوارها وهاهي سيدة مسنة أبت إلا أن تأتي لتتضامن وهي قعيدة كرسي متحرك. أما الفتيات اللاتي ينتظر الجميع منهم أن تظهر كل منهن كما يظهر الصبايا في مثل أعمارهم، لسن كذلك اليوم لا المحجبة ولا التي لا ترتدي غطاء الرأس ولا المنتقبة، إنه ليس حفلا راقصا على الشاطئ، إنه جمع غاضب على أبواب المحكمة، حتى التي تكشف رأسها والتي يود البعض أن يظن أنها الأكثر تحررا فهي تعلم أن لكل مقام مقال، فلم ترتدي أي منهن ملابسا استعراضية ولم تضع مساحيق التجميل بصورة صارخة أو ترتدي حليا فاخرة، ولو أن بعضهن يضع سلسلة صغيرة حول العنق لإظهار توجهاتهن العقائدية وماهو بالأمر المذموم بل بالعكس فقدعلقت العصفورة على ذلك بأن المشهد أعمق وأنفذ من التصوير التلفزيوني لمشاهد ثورة 19 في العديد من المسلسلات حيث يأتوا برجال الدين من المسلمين والأقباط في مقدمة المسيرات للتعبير عن الوحدة الوطنية وتكاتف فئات الشعب أو كما يفعل الكثير في أفلام هوليود وتصوير الأسود بجوار الأبيض، فقالت لعصفورها "ما أمتع ما تعرضه علينا أرض الواقع".

وقال لها العصفور: "ما أمتع نظامهم وحركاتهم الموحدة فصفوف الجنس الناعم لا تتخير عن الذكور فكل منهم ومنهن كأنه نصب شامخ أصله في الأرض وصوته يعانق عنان السماء، لا يضنيهم الحر ولا يزعزهم المحاولات الفاشلة من شباب اليسار أو شباب الداخلية كما علمت من أحدهم وكأنهم ببساطة غير متواجدين معهم في نفس المكان. انظري إليه هل تفرقي بين أحد منهم وهم يهتفون معا تحية لأم الشهيد ويرفعون أيديهم معا بعلامات النصر، هل تفرقي بينهم وهم يصدرون أصوات التصفيق والهتاف عاليا ضد الضابط القاتل "باطل باطل قاتل قاتل". كأنهم أعضاء فرقة موسيقية يتواصلون معا كما لو كان يحركهم قائد أو مايسترو ولكنه خفي لا نراه. وهؤلاء المارة الذين يقفون لينضموا إلى الجمع المتضامن أو المتفرجين الذين يمتدون إلى أبعد من مرمى البصر هم جمهور هذه المقطوعة عذبة الألحان"

مع خروج أم البطل والشهيد ورمز الإنسانية والتغيير والثورة والغضب ضد عنف أفراد الشرطة هذه الأيام في مصر كانت المحاكمة قد رفعت وحياها المتضامنون بهتافات أبكت العصفورة وأثرت في العصفور الذي ترغرغت عينيه بالدموع "ماتبكيش ياأم الشهيد.... كلنا خالد سعيد ... خالد حي ... خالد حي". ثم رأى العصفوران بعض من جمع المتضامنين يطلب من الضباط إخراجهم من الكوردون وسألهم أحدهم "إلى أين؟" فأجابوا "إلى معايشنا فلقد أدينا مهمة اليوم"، وأمر الضابط بفتح الطريق ومرت المجموعة بسلام ثم دعى الباقي للمرور، فأجابهم أحدهم "نحن لم نتهي بعد" واعتلا كتف أحد زملائه وهتف لثوان لحق الضحية ثم قاد الهتاف والهاتفين إلى ماوراء خالد والتعذيب. "قال عاملين علينا أسود وبتنضربوا ع الحدود" وكما يرى البعض أن العساكر قليلي الحيلة فقد هتفوا لأجلهم أو كذلك يظن السامع "العسكري مظلوم في الجيش ياكل عدس ويلبس خيش ...إيه أخرتها مع الضباط دول حرمنكو من الأجازات...." ورددت خلفهم الفتيات وأبرزهم فتاة ذات صوت رخيم يفيض من القلب إلى القلب ضحك العصفوران من الهتافات الذكية للمتظاهرين وهما يتابعان الهتافات التي أتى بها رجل مسن القالب شاب القلب مثل "وزارة الداخلية هي الراعي الرسمي لتجارة المخدرات" و"عيشوا بشرف ..جتكوا القرف"، ثم تصاعد الهتاف إلى الهتاف السياسي من العيار الثقيل "أحلف بسماها وبترابه الحزب الوطني مولعها" "يسقط يسقط حسني مبارك"، ولا يمكن للأمن أن يقف مكتوف الأيدي وسط هذه الهتافات بدأ الضغط والتشاحن مع المتظاهرين ودفعهم بقوة حتى ينفض الجمع، فهم يرون أنهم قد تنازلوا في البداية وتركوهم ليهتفوا كمتضامنين مع قضية خالد- وكأن العصمة بأيدي أفراد الأمن- ولكن لن يسكتوا عن هتاف المتظاهرين ضد السلطة وإلا فالويل لهم . ومع الضغط لم يتمالك بعض المتظاهرين أعصابهم وبدأوا دفعهم بقوة ويردوا على الكلمة بالكلمات حتى انفض الاشتباك بأعجوبة تاركا فتيات باكيات وشباب به بعض الرضوض والكدمات.

خلال ساعة أو أكثر بدأ المكان ينفض ليعود للزحام المعتاد لهذا المكان وبعد العصر حين كان ينبغى على العصفورين الرجوع إلى السرب بعد الانتهاء من البحث عن الطعام، لم يجد العصفوران أي من أفراد السرب حولهما ولكنهما وجدا مجموعات متفرقة من العصافير الأخرى بعضها على أسوار أو شجيرات بعيدة يبدو إنها فقدت سربها وبدأت البحث عن الطعام متأخرا لأنها مثلها مثل عصفورينا كانت تتابع ما شهدته منطقة مجمع المحاكم صباح اليوم وحتى الظهيرة.

نظرت العصفورة بقلق إلى عصفورها بعد ما أيقنت أن سربهما قد رحل وزاد من قلقها الرياح العاتية التي بدأت في الهبوب وكأنها كانت تحمل أسفار هتافات الصباح لتحملها وتصعد بها إلى السماء.

العصفور: "إن الرياح مسيرة ولكننا لدينا وجهة ومسكن وفراخ تنتظرنا... هل تعتقدي إننا أخطأنا بحق أنفسنا عندما لم نملأ بطوننا بالطعام لنتابع هذا الحدث الجلل؟"

العصفورة: "بل بالعكس إني أشعر إني خمصى البطن على الرغم من أنني لم آكل مثل كل يوم"

العصفور: "إنه الشعور بالرضا عن النفس والدرس الذي تعلمناه اليوم وسنطبقه على الفور... إن الرياح مسيرة لتهب بهذه القوة وشاء القدر أن تكون معاكسة لوجهتنا ولكننا لن نقف وقفة المتفرج.. نحن طيور قليلة الجحم وربما أضعف الطيور بنية.... ولكن الله خلقنا في هذا الشكل الإنسيابي لنخترق تيار الرياح مثل الأسماك التي يلزمها في كثير من الأحيان السباحة ضد تيار المياه"

العصفورة : "نحن الاثنان سنقاوم هذه الرياح العاتية؟؟!!!"

العصفور: " ألا ترين هذه العصافير التائهة مثلنا ؟"

العصفورة : "كيف سنصل إلى جميع العصافير فهم متفرقون على أسوار عدة وشجيرات متفرقة. ماذا لو لم يكونوا أمثالنا؟"

العصفور: "هل كان ما يجمع المتضامنين اليوم التماثل والتطابق التام؟ بالطبع لا ما جمعهم اليوم هو وقوفهم على الأرض المشتركة. أرأيتي أن الكثير منهم له توجهات أخرى ولكنهم نجحوا لمدة ساعتين أن يجتمعوا على النقطة المشتركة. ثم ذهب كل منهم لمتابعة ما يشغله ومايهمه سواء لقمة العيش أو الوقوف ضد الظلم بكل أشكاله. ولم يجبروا المتضامنين أن يصبحوا جميعا متظاهرين ولم يستغلوا كثرتهم لتسخيرهم للهتاف بلغتهم فقد احترموا جيدا النقاط المشتركة والتفاوت بينهم". "اتعتقدي أننا لم نرى ذلك اتظني أن باقي العصافير والمارة المتفرجين لم يستوعبوا درسا اليوم؟ تعالي معي"

حلق العصفور في وسط السماء ومن وراءه زوجته وفهم حركته باقي العصافير واصطف الجميع على شكل انسيابي في وسط السماء ... إنه شكل النسر الذي يتوسط علم مصر رمز القوة وطار النسر الكبير مقاوما اتجاه الرياح وكلما اشتدت الريح غرد العصافير كما كان يغرد المتضامنون في الصباح ليربطوا على قلوب المتضامنين أثناء محاولة شباب اليسار التعتيم على الوقفة التضامنية "وحد صفك.. كتفي في كتفك ..حركة وطنية واحدة"؛

----------------

يامن أقصيت من سربك ولم تجد قوت اليوم ... سيكفيك الكافي وخامص البطن عما قريب سيصبح ثقيلا لا يقوى على الطير وسيسقط هاويا من من عليته.

يا من تقف على السور السفلي أو تنظر من نافذة عالية أو تأتي من جهة اليمين أو تتجه نحو الشرق، هناك حتما نقطة نلتقي عندها على الدرب .... نراكم على خير على الأرض المشتركة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق